ما كاد «حزب الله» ومدفعية جيش النظام السوري الثقيلة، يسجلان انتصاراً عسكرياً على «جبهة النصرة» في جرود عرسال (الحدود السورية اللبنانية)، بعد ثلاث سنوات من المواجهات المتواصلة، حتى عاد الجدل في لبنان حول حصرية السلاح، ولكن بنبرة خافتة هذه المرة قد تعود لسببين رئيسيين؛ أولهما شبه الإجماع اللبناني على أنّ «النصرة» منظمة إرهابية والخلاص منها نعمة أمنية، وثانيهما أنّ الانتخابات النيابية على الأبواب، ومن الحكمة السياسية تجنب استعداء الناخب الشيعي.

على خلفية هذا الوضع كان أجرأ المنتقدين لتصرفات «حزب الله» رئيس «حزب القوات اللبنانية»، سمير جعجع الذي أكد أنّه لا يعتبر الخلاص من «النصرة» في جرود عرسال، «انتصاراً»، لأنه يأتي في سياق الحرب التي يخوضها الحزب في سوريا دفاعاً عن نظام بشار الأسد. وبهذه المناسبة دعا جعجع «حزب الله» إلى «إهداء» سلاحه للدولة معتبراً أنّ مشكلة لبنان الأساسية «تأخر قيام دولة فعلية».

لا جدال في أنّ سلاح حزب الله يشكل العمود الفقري للدولة الموازية للدولة الشرعية في لبنان. مع ذلك لا بدّ من التساؤل، هل هو السبب الوحيد «لتأخر» قيام الدولة - علماً بأنه يحول دون قيامها ولا يؤخره فحسب - أم أنّ نظام «الأبارتايد» الطائفي الذي يطبقه لبنان منذ ولادته، مهّد «للحالة اللبنانية» الراهنة وإلى حد ما أوجد المناخ النفسي للنزاعات الطائفية التي تمارس بتوريات سياسية في لبنان؟

دستورياً، يتباهى اللبنانيون بأنّهم من عداد قلة قليلة من الشعوب العربية التي تطبق نظاماً برلمانياً ديمقراطياً ويتناسون أنّ ديمقراطيتهم ليست ديمقراطية «خيار» سياسي، بل ديمقراطية «ضرورة» ديمغرافية. فالديمقراطية الحقيقية تبدأ بمساواة كل أبناء الوطن الواحد بالحقوق والواجبات، الأمر الذي أخر النقلة المطلوبة من مجتمع «التعايش المشترك» إلى مجتمع «العيش المشترك»، وهي النقلة النوعية الأولى على مسار قيام الدولة. والمؤسف في هذا السياق أنّ فجوة التمييز بين أبناء «العائلات الروحية» تزداد اتساعاً بمرور الزمن.

أكان من حيث الشكل أم من حيث المضمون، ديمقراطية لبنان أبعد «الديمقراطيات» عن الديمقراطية، فهي ليست أكثر من آلية تقاسم «كعكة» السلطة، بتوافق عام بين زعماء الطوائف، يحول دون هيمنة طائفة ما على أخرى، أو مصادرة بعض من حقوقها. وعقدة هذه المحاصصة الدستورية أنّها تجري وفق مؤشر حسابي يعتمد على إحصاءات سكانية يعرف جميع اللبنانيين أنّها لم تعد واقعية.

هذه العقدة كانت أحد دوافع «المارونية السياسية» في ستينات وسبعينات القرن الماضي ويبدو، بالمقابل، أنّها أحد حوافز ترعرع «الشيعية السياسية» في الوقت الحاضر، (وإنْ بغطاء من المسميات الوطنية والقومية).

واللافت على هذا الصعيد أن نلمس بين سطور الخطاب السياسي للتيار الوطني الحر، ملامح مارونية سياسية «رومانسية»، قد تبرر قيام ردود فعل طائفية تزيد قيام الدولة تأخيراً أكثر ممّا تقدم قضية استعادة الموارنة حقوقهم.

إلّا أنّ المطمئن حتى الآن في وضع لبنان، أنّ التوتر السياسي لم يترجم، كالعادة، تحريضاً مذهبياً أو أمنياً... فالمارونية السياسية ما زالت مضبوطة على إيقاع قانون الانتخاب النسبي وضمانة وجود ميشال عون في سدة الرئاسة، والشيعية السياسية ما زالت مرهونة بالتحولات الإقليمية... وكأنّ ضغوط الخارج والداخل أفرزت تفاهماً ضمنياً بين زعماء الطوائف بالحفاظ على استقرار لبنان الأمني والنقدي، القطاعين الأساسيين لاستمرارية «الدولة»... وهو تفاهم نأمل أن يدوم إلى أن يصبح كل زعماء لبنان، بعد عمر طويل، علمانيين.

 

وليد أبي مرشد