ما أعظم الانتصارات، وما أكبر التضحيات التي بُذِلت للتأكيد أنّ هذا البلد هو بالفعل مقبرةُ الغزاة. دماءُ جنودِنا ومقاومينا التي ذُرِفت لتثبيت رسالة الحياة والحق والخير والجمال.
 

أما بعد، إنّ عظمة هذه التضحيات تستحق أن تُقابَل بورشة أساسية لتعزيز سيادة الوطن، السيادة الاقتصادية قبل كل شيء، السيادة الاقتصادية التي تمنح العيش الكريم والفرص لشعبٍ تحمّل الكثير، لشعبٍ قاوم، لشعبٍ ساند، ولشعبٍ يتطلّع بأمل لرؤية لبنان عظيم يوفّر سبلَ الحياة الكريمة لأبنائه.

وهنا لا بد من التأكيد أنه من دون سيادة اقتصادية وتأمين مستلزمات الحياة الكريمة وفرص الإنتاج لشعبنا، ستذهب كل التضحيات سدى، كل كلام آخر هو من باب الشعر والتمنّيات ليس إلّا.

تنقشع غمامةٌ سوداء اليوم عن المنطقة، بعد آلام واستنزاف كبيرَين، والمرحلة المقبلة ستشهد إعماراً لسوريا المنكوبة، فنتمنّى أن لا يزيد لبنان الى فرصه الضائعة فرصةً إضافية، وكأننا أصبحنا خبراءَ في تضييع الفرص.

لنضع الخلافَ السياسي جانباً، والتحالفات الإقليمية على الرف، ولنفكّر فقط في مصلحة لبنان الاقتصادية، البلد المحاصَر منذ سنوات، المشلول اقتصادياً، فلننظر الى مستويات الهجرة المتزايدة، الى انخفاض الصادرات، الى صفر نموّ.

ألا يستحق كل ذلك بدء الحوار مع الحكومة السورية لايجاد حلول لمشاكل لم يعد لبنان قادراً على تحمّلها، من مشكلة النازحين التي أرهقت الاقتصاد اللبناني، الى تعثّر التصدير؟ ألا يستحق كل ذلك إجراء مباحثات مع السوريين لإعادة تفعيل وتسهيل التصدير وتأمين عودة لائقة للنازحين؟

يستطيع لبنان أن يلعب أيضاً دوراً أساسياً في تعزيز الحوار بين سوريا والأردن لفتح المعبر المغلق، ممّا يؤمّن ممرّاً سهلاً للصادرات اللبنانية وينعكس إيجاباً على الصناعة الوطينة كما الزراعة. وقد يكون لبنان البلد الوحيد في المنطقة القادر على لعب دور لفتح حوار بين الأردن وسوريا.

فالتصدير ايضاً مقاومة، ويستحق أن يتكاتف الجميع لتعزيزه لتأمين استمرارية الإنتاج في هذا البلد، فلا يتحمّل لبنان تضييع المزيد من الفرص. يجب أن يكون حاضراً في المرحلة المقبلة للعب دور استراتيجي أساسي في التواصل وتقريب وجهات النظر، لا أن يبقى رهيناً للمواقف السياسية. وهنا أودّ أن اقترح إعطاء وزير الصناعة صلاحيات استثنائية لكل ما له علاقة بالتصدير واعتبار كل عرقلة أو تأخير أو ابتزاز له علاقة بالتصدير بمثابة خيانة.

علينا التفكير جدّياً في خلق بيئة مناسبة لمواكبة المرحلة المقبلة من إعمار سوريا، فإذا لم نطلق عجلة إنتاجية سريعاً، ستشكّل الضرائب الأخيرة رصاصة رحمة للاقتصاد المتعثّر.

وهنا يجب التمسّك بورقة «التيار الوطني الحر» الاقتصادية وإبقاء الاجتماعات مفتوحة للوصول الى تطبيق حقيقي لكل الأفكار، وجعل البيئة مناسِبة للأعمال والتصدير عبر تأمين الخطط المناسِبة وتعزيز مرفأ بيروت. فعلى الرغم من أنّ ما تمّ إنجازُه حتى اليوم جيد والإصلاح واضح في ما يتعلّق بالجمارك إلّا أنه يلزمنا المزيد من الجهد لرفع نسبة التصدير وعدم عرقلتها. ومحاربة الفواتير المخفضة وضبط الاستيراد، وتخفيف العوائق في عمليات التصدير، وتحويل كل رسوم المرفأ الى مالية الدولة اللبنانية، وليس الى حسابات اللجنة الموقّتة لإدارة واستثمار المرفأ.

تأمين بيئة مناسبة للأعمال يستوجب ورشة سريعة لتحفيز إنشاء الشركات وتخفيف الأكلاف المترافقة مع ذلك، وتشجيعها لتصبح مقرّ نشاطاتها في لبنان، بدءاً من سعر بطاقة السفر الى بيروت، الى أسعار الاتصالات من الأغلى في العالم والإنترنت، الى كلفة التصدير والشحن، الدخول في عصر التكنولوجيا، إيجاد مطارات في المناطق، تفعيل وتعزيز مرفأ طرابلس وفتح باب التنافس، فالشركات الكبرى ستختار لبنان حكماً للموقع الإستراتيجي ولكن هل سيقنعها مستوى الخدمات الموجودة؟ ومن هنا السؤال، هل كانت هناك حكمة في فرض ضرائب إضافية على الشركات في مثل هذه الأجواء، في بلد يُعتبر التهرّب الضريبي فيه أكثر من الضرائب المباشرة المدفوعة؟

لدينا فرصة تاريخية اليوم ليصبح لبنان منصّة لإطلاق الإعمار في سوريا، فحسب البنك الدولي، تصل كلفة إعادة إعمار سوريا الى 200 مليار دولار، والجدير ذكره أنّ هذا المبلغ هو فقط لعملية إعادة البناء من دون الدخول في عملية تطوير وتوسيع البنية التحتية، في وقت يشير بعض الدراسات الى أنّ هذا الرقم قد يصل الى ما بين 700 و800 مليار دولار عند الكشف على المناطق التي لا يمكن الدخول اليها حالياً نتيجة استمرار المعارك الدائرة فيها.

فهل سيكون للبنان دور في المرحلة المقبلة أم سيكتفي بلعب دور الممرّ الثانوي كالعادة؟ حرام وأكبر حرام أن تضيع التضحيات والبطولات والإنجازات في غياب للرؤية واستمرار الفساد، فمستقبل الدول يُقاس بمستقبل شبابها، ولدينا فرصة حقيقية لقلب الأوضاع لصالحنا إذا تخلّينا عن النرجسية اللبنانية المعروفة وانطلقنا الى العمل.