لم يَجد عسكريّو الجيش أسمَى من المراهنة على حياتهم لإثبات حبِّهم للوطن. شبانٌ في مقتبل أعمارهم تخرّجوا أمس... وقفوا، ركعوا، حملوا سيوفَهم ومشَوا مرفوعي الرؤوس. يعرفون أنّ المهمّة صعبة، ويدركون أنّهم مشاريعُ شهداء، لكن فداءً للوطن. «شرف، تضحية، وفاء»: شعارٌ بات مسيرة حياة شاقّة قطعها قبلهم شهداء أضحوا مثالاً يُحتذى به. فماذا دار في الإحتفال الـ72 لعيد الجيش أمس؟
 

حضر العيدُ وعيونُ اللبنانيين شاخصةٌ إليه بعدما حُرموا منه لنحوِ ثلاث سنوات، فكانت له تحضيراتٌ تليق بما اشتاق له الوطن، وقد حمل عنوان «بمجدك احْتميت»...

دقت الساعة التاسعة، وصل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وأوّل ما فعله هو وضع إكليل من الزهر على النصب التذكاري لشهداء ضباط الجيش داخل حرم الكلية الحربية يحيط به وزير الدفاع وقائد الجيش ورئيس الأركان وقائد الكلية الحربية.

«لن ننساهم أبداً»، عبارة كرَّرها التلامذة الضباط ثلاث مرات على إيقاع الطبول، تمجيداً لذكرى الشهداء، ليتوجّه بعدها الرئيس عون الى المنصّة الرسمية وتبدأ وقائع الاحتفال بمرور تشكيلات جوّية من الطوافات والطائرات وطائرة من نوع Cessna-Caravan حلّقت في سماء العرض، وحملت بعض الطوافات الأعلام اللبنانية وأعلام الجيش.

بعدها جال عون على الحضور الذي استقبله مصفّقاً، وسُلّم بيرق الكلية الحربية من الدورة المتخرّجة الى طليع السنة الثانية، لتتقدّم الدورة المتخرّجة وهي تنشد نشيد الكلية الحربية حيث وقف أفرادها في منتصف الملعب، وتقدّم طليع الدورة السابقة من رئيس الجمهورية، وطلب تسمية الدورة المتخرّجة قائلاً: «بإسم هؤلاء الفتيان اطلب تسمية دورتهم دورةَ المقدّم الشهيد صبحي العاقوري»، فردّ عون: «فلتسمَّ دورتكم دورة المقدّم الشهيد صبحي العاقوري».

الدورات السابقة

لم يغفل عون ما حُرِمت منه دورات 2014 و2015 و2016 حين كان الشغور الرئاسي يحكم البلد، يومها لم يتسنَّ لهم أن يستلموا سيوفهم من رئيس الجمهورية كما يقتضي البروتوكول، لذلك حرص عون على تسليمهم سيوفهم في خطوة رمزيّة، فتسلّم طليع دورة 2014 الملازم أول محمد عكاري السيف بإسم رفاق دورته التي حملت إسم الرائد الشهيد روجيه حرفوش، وتلاه طليع دورة 2015 الملازم أحمد السمروط الذي تسلّم السيف بإسم رفاق دورته التي حملت إسم الرائد الشهيد ميشال مفلح، فيما تسلّم طليع دورة 2016 الملازم أحمد نجار السيف بإسم رفاق دورته التي حملت إسم العقيد الشهيد نور الدين الجمل.

لتبدأ بعدها عملية تسليم الضباط المتخرّجين للعام 2017 السيوف، حيث تلا وزير الدفاع الوطني يعقوب الصراف مرسوم ترقية تلامذة ضباط قوى الجيش وعددهم 156 ضابطاً، فيما تلا وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق مرسوم ترقية تلامذة ضباط المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وعددهم 49 ضابطاً، والمديرية العامة للأمن العام وعددهم 11 ضابطاً، والمديرية العامة لأمن الدولة وعددهم خمسة ضباط. ثم تلا وزير المال علي حسن خليل مرسوم ترقية ضباط مديرية الجمارك العامة وعددهم أربعة ضباط.

ليتقدّم بعدها علم الجيش أمام عون، ثم تقدّم طليع الدورة المتخرّجة الملازم من قوى الأمن الداخلي علي حب الله وأقسم اليمين الآتية: «أقسم بالله العظيم أن أقوم بواجبي كاملاً حفاظاً على علم بلادي وذوداً عن وطني لبنان»، ليُردّد الضباط المتخرّجون «والله العظيم».
                                   
التحيّة

وبعد كلمة عون، بدأ عرض التحية الذي شارك فيه تباعاً: موسيقى الجيش، الأعلام والبيارق، الضباط المتخرّجون، الكلية الحربية، معهد التعليم (مدرسة الرتباء)، القوات البحريّة والجوّية، لواء المشاة الحادي عشر، المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، المديرية العامة للأمن العام، المديرية العامة لأمن الدولة، مديرية الجمارك العامة، فوج المغاوير.

وبعد انتهاء عرض التحية، أمَر طليع الدورة المتخرّجة بتوشيح الحسام ثم بغمده، وسار الضباط المتخرّجون وهم ينشدون نشيد الجيش، ولدى وصولهم الى نهاية الملعب رمى الضباط قبعاتهم وسط تصفيق الحضور.

الأهالي

أهالي المتخرجين ملأوا المنصّة، تنظر إليهم فترى عيونهم تنضح فخراً، نادراً ما كفّوا عن التصفيق أو جلسوا الى كراسيهم، فكان كلٌّ مشغول بتصوير إبنه، لتعلوَ الزغاريد مع كل إسم يُتلا. لكنّ الفخر الذي عبّر عنه الأهالي لم يمنع وجود غصة في عيونهم، إذ إنّ كل دورة تحمل إسم شهيد وهو ما كان كفيلاً بتذكيرهم بما أبناؤهم مقبلون عليه، خصوصاً أنّ القيادة العسكرية تتحضّر لمعركة جرود القاع ورأس بعلبك في وجه «داعش» والإرهابيين. فالحياة العسكرية ليست سهلة، لكن يكفي الأهالي فخراً أن يتسنّى لأبنائهم عيشها.

وفي خضمّ الإحتفال لم يغب موضوعُ المعركة المرتقبة في الجرود عن الأحاديث الجانبية، فأكد مصدرٌ عسكريّ لـ»الجمهورية» أنّ قيادة الجيش حسَمت قرارَها بتحرير الأرض من الإرهابيين والتحضيرات للمعركة بدأت، لكنّ ساعة الصفر تبقى سرّية وتُقرَّر وفقاً لحسابات القيادة المرتبطة بأجندتها الداخلية.

دورةُ الشهيد

لم يُختر إسم المقدّم الشهيد صبحي العاقوري عبثاً، فهو كما غيره من العسكريين شكّل مثالاً يُحتذى به، وكما ترك زوجته وأطفاله الأربعة تنفيذاً للأوامر ولمطاردة الإرهابيين في مخيم نهر البارد، قد يعيد التاريخ نفسَه مع أيٍّ من العسكريين الذين يعرفون أنّ الإستشهاد ربما يكون لهم يومياً في المرصاد. ليس سهلاً أن تكون عسكرياً، فكما غادر الشهيد العاقوري المنزل للمرة الأخيرة، قد يفعل أيٌّ من العسكريين مثله، وكما ترك أولاده جويس، وجو، وكلوي وكريستي من دون أن يعرف أنّ لقاءه بهم سيكون الأخير، قد يفعل مثله أيٌّ من العسكريين.

الشهداء روجيه حرفوش، ميشال مفلح، نور الدين الجمل وصبحي العاقوري أسماء ستضاف إليها كوكبة من الشهداء لتبقى الحقيقة واحدة، أبطالٌ يضعون أرواحَهم على أكفّهم فداءً للوطن، فليس سهلاً أن تكون عسكرياً.