كل ما استطاعت قوى السلطة أن تفعلَه هو أن تُرجِئ اﻻستحقاقَ اﻻنتخابي، كلّ لضروراته الخاصة. فـ»حزب الله» يفضل التأجيلَ لضروراتٍ استراتيجية، فيما «المستقبل» يريد كسبَ مزيدٍ من الوقت لتحضير المعركة. وأما المسيحيون فوافقوا على التأجيلِ لأنّ اﻵخرينَ يريدونه. ولكن، على الجميع أن يتذكّر أنّ لعبة الوقت ليست مجانية، وأنّ هناك مخاطرَ لعامل الوقت يجب التحسُّب لها.
 

حتى اليوم، ليس هناك ما يوحي بأنّ اﻻنتخاباتِ النيابية المقبلة ستُجرى حتماً في موعدها المقرّر في أيار 2018، وأنها ستُجرى وفق القانون الذي تمّ إقرارُه على عجل لتبرير التمديد الثالث للمجلس النيابي.

وإن يكن من الصعب التكهّن بما سيكون عليه اﻷمر في الربيع المقبل، يجدر التذكير بأنّ القوى السياسية التي اعتادت تجاوزَ المواعيد الدستورية قد تجد تبريراً جديداً في أيّ لحظة لتأجيل اﻻنتخابات، إذا وجدت أنّ مصالحَها تقتضي ذلك.

فكلٌّ مِن هذه القوى السياسية ينظر إلى موعد أيار المقبل من زاوية مصالحه، ووفقاً لما يريد تحقيقَه في هذا اﻻستحقاق. وتبدو القوى المسيحية هي اﻷكثر انشغالاً بهذا الملف، فيما القوى الشيعية مرتاحة تماماً إلى المواجهة. وأما السنّة فاهتمامُهم نسبي.

هذه الصورة تعيد إلى اﻷذهان حقيقة أنّ المعارك اﻻنتخابية في لبنان، النيابية وغير النيابية، هي في الدرجة اﻷولى معارك بين القوى المسيحية، فيما اﻵخرون يتدبّرون أمورَهم ضمن حدود معيّنة من التراضي.

في الساحة الشيعية، «حزب الله» وحركة «أمل» يعلنان بكل ثقة أنّ الحصة الشيعية في المجلس النيابي المقبل ستبقى لهما. والنظام النسبي، في الشكل الذي تمّ اﻻتفاق عليه، يعطّل إمكاناتِ الخرق في الوسط الشيعي، إلّا نادراً واستثنائياً.

ولذلك، ليس هناك شكٌ لدى «الحزب» و»الحركة» في أنهما سيمضيان في اﻹمساك بمقاعد الطائفة في المجلس النيابي المقبل. وليس ذلك مستغرَباً، ﻷنّ حماية وضعية «حزب الله» تفرض عدم تعريض الحالة الشيعية في السلطة للإختراق.

وقد وُفِّق الثنائي الحزبي الذي يمثّل الطائفة الشيعية داخل السلطة في حماية نفسه وتمثيله بالحصول على غطاءِ القوى اﻷخرى، حتى تلك المصنَّفة في خانة الخصوم، كقوى 14 آذار (تيار «المستقبل» و»القوات اللبنانية» تحديداً).

في درجة ثانية، يستعدّ تيار «المستقبل» لمعركة يحتفظ فيها بالتمثيل السنّي الوازن، ولكن غير اﻻحتكاري. ويبدو واضحاً أنّ التفاهمَ الذي أعاد الرئيس سعد الحريري إلى السراي الحكومي يتضمّن توازناً ما بين عاملين: «المستقبل» يتخلّى عن مواجهة «الحزب» ويتعاطى معه «واقعياً»، فيما «الحزب» يفتح له البابَ مجدداً للإمساك بالحالة السنّية ورئاسة الحكومة.

طبعاً، لن يسلّم «حزب الله» كل أوراقه داخل الطائفة السنّية. فهو سيعمل للاحتفاظ بمواقع لحلفائه في مختلف الدوائر ذات الغالبية السنّية، كما في الدوائر التي «يمون» عليها.

وعلى العكس، تلتقي مصالحُ «المستقبل» و»حزب الله» على مواجهة القوى «الخارجة عن السيطرة» في داخل الطائفة، ومنها مثلاً حالة اللواء أشرف ريفي في طرابلس وخارجها وبعض الحالات المحسوبة على تيارات سنّية متشدّدة.

أما المواجهة اﻷبرز في اﻻستحقاق النيابي المقبل فستكون على الساحة المسيحية. وخلافاً للحالة الشيعية التوافقية، تبدو الملامحُ المبكرة لمواجهة مسيحية متعدّدة الوجوه ما بين «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية».

لم يكن قانون اﻻنتخابات قد أبصر النور حين أعلن النائب أنطوان زهرا عزوفَه عن خوض المعركة في البترون. ولهذا القرار أهميةٌ حاسمة في اﻻنتخابات المقبلة، ﻷنّ البترون هي الهدف اﻷوّل للوزير جبران باسيل.

وثمّة مَن يعتقد أنّ «القوات» ليست متحمّسة لمنح باسيل مفتاحاً لباب البترون، مدخل الشمال المسيحي، إلّا مقابل ثمنٍ لم تحصل عليه حتى اﻵن.

يقول البعض إنّ «القوات» أوصلت رمزَ «التيار» العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية ليكون الدكتور سمير جعجع هو الرمز المسيحي التالي، وليس باسيل.

وفي البترون، هناك كلامٌ كثير عن تقارب بين «القوات» والنائب بطرس حرب، يوازيه احتمالُ التقارب انتخابياً بين «القوات» و»المردة» في زغرتا، فيما تطلّ ملامحُ مواجهات واضحة في كسروان - جبيل وزحلة وبيروت وبعبدا وسواها.

يعني ذلك أنّ كلّاً من «التيار» و»القوات» سيضطر إلى بناء تحالفاته الخاصة في كل دائرة انتخابية، وتالياً أنّ التحالفات ستتمّ «على القطعة» مع القوى الأُخرى ذات الوزن في هذه الدائرة، سواءٌ كانت هذه القوى جزءاً من السلطة أو من خارجها.

وسيضطر كل من «التيار» و»القوات» إلى التحالف مع أحد قطبَي الثنائية الحزبية في الطائفة الشيعية، «أمل» و»حزب الله»، أو مع «المستقبل» أو سواه، في زحلة مثلاً. ولا شيء يمنع من أن يتحالف أحدُ الطرفين مع الكتائب أو آل سكاف هناك. وسيكون دورُ «المستقبل» والقوى الشيعية مؤثراً.

هذه «الخلطة» توازيها أخرى في دائرة جزين - صيدا، حيث يسود الترقّب مسيحيّاً وسنّياً، علماً أنّ الصوت الشيعي في هذه الدائرة له وزنه. وأما في دوائر جبل لبنان فيختلط «الحابل بالنابل» مع ظهور الملامح اﻷولى للتحالفات، وهي توحي بتفكّك قوى السلطة وبتحالفات ممكنة بينها وبين القوى المعارِضة أو المستقلّة أو المناطقية وفقاً لكل حالة.

إذاً، تركيبةُ السلطة قابلة للعيش حتى اﻻنتخابات المقبلة، وبعد ذلك سيُعاد خلطُ اﻷوراق.

وستكون السلطةُ المقبلة رهنَ مفاعيل اﻻنتخابات. وإذا كان الوضعُ الشيعي هو اﻷكثر استقراراً والوضع السنّي مستقرّ بنسبة معيّنة، فإنّ الوضع المسيحي سيشهد خلطاً واضحاً للأوراق تضيع فيه معالم التحالف بين القوى المشارِكة في السلطة وتلك المصنَّفة خارجها.

لذلك، يبقى موعد اﻻنتخابات والقانون الذي سيرعاها مسألة غير محسومة وخاضعة للمصالح وصفقات اللحظة اﻷخيرة.