كانت غريبةً إلى حدٍّ ما بعضُ الجوانب التي أحاطت باجتماع الرئيس الأميركي دونالد ترامب برئيس الحكومة سعد الحريري.
 

فالضيف اللبناني الذي استبَق زيارته الرسمية لواشنطن بزيارة سريعة للسعودية ولقاءٍ دافئ مع ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، حظيَ بتكريم واضح من خلال اللقاء الإعلامي المشترك بعد انتهاء الاجتماع، إلّا أنّ المواقف التي أطلقها ترامب بدت خاليةً من أيّ مضمون فعلي، خصوصاً لجهة قولِه بانتظار 24 ساعة لمعرفة القرار الأميركي بالنسبة الى العقوبات على «حزب الله».

صحيح أنّ ترامب كان يتلو بياناً أعِدّ سلفاً، وهي من المرّات القليلة له، فيما هو اشتهر بالارتجال والعفوية، لكنّ البعض رأى في ذلك، إمّا عدم وجود تحضير جيّد مسبقاً للاجتماع أو عدم اتّضاح القرار داخل الإدارة الاميركية حول طريقة التعامل مع هذه الملفّات في المرحلة الراهنة، أو الاثنين معاً.

وخلال الاشهر الماضية طلبَ الحريري ترتيبَ زيارة له الى البيت الابيض بعدما أحجَمت الدوائر الديبلوماسية الاميركية عن التجاوب مع طلبٍ مماثل صَدر عن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.

الموعد المبدئي الأوّل للزيارة كان مقرّراً في أيار الماضي، لكنّ البيت الأبيض آثرَ تأجيلَه إلى تموز الجاري، في انتظار حصول بعض المعطيات، ما يَجعل الزيارة اللبنانية مثمرة. وبالفعل حصَلت الزيارة المثيرة لترامب الى السعودية فإسرائيل وتنشيط المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية والاجتماعات العسكرية السرّية الاميركية - الروسية لترتيب الوضع في سوريا، وهو ما مهَّد للقمّة الاميركية - الروسية الأولى في ولاية ترامب ولتفاهماتها المهمّة، وأخيراً وليس آخراً تجديد ترامب للاتفاق النووي مع إيران.

وهذه التطوّرات أنضجَت القرار بإنهاء «جيب» جرود عرسال وفليطة، وهو ما حرصَ قائد المنطقة الوسطى في الجيش الاميركي على إظهاره لدى تفقّدِه جبهات جرود عرسال.

لكنّ المشهد الاميركي ليس بهذه البساطة، وقراءتُه ليست بالسهولة التي يعتقدها البعض، خصوصاً في ظلّ رئيسٍ يعاني كثيراً داخلياً وتَخضع عائلتُه والقريبون إليه لتحقيقات قاسية في الكونغرس الأميركي عنوانُها «التواطؤ» مع روسيا.

ففي الاوساط الديبلوماسية الاميركية همسٌ حول استقالةٍ قريبة لوزير الخارجية ريكس تيلرسون المحتجب، لا بل المستنكف، عن أداء كلّ المساحة المطلوبة منه.

ورغم نفيه، يتردّد أنّ تيلرسون سيقدِم على خطوته قبل نهاية السَنة الجارية مستاءٌ من إبعاده عن الحلقة الضيّقة المحيطة بالرئيس وعلى طريقة تعاطي ترامب المذِلّة مع مسؤوليه ووزرائه الكبار، وهو ما جَعل عدداً منهم يسبقونه الى الاستقالة، ودفعَ بآخرين الى الإحجام عن قبول الوظائف في إدارة ترامب التي تعاني من فراغ على مستوى نِصف هذه الوظائف.

لكن الأهمّ أنّ تيلرسون، كما معظم أركان إدارة ترامب، يختلفون مع أسلوب ترامب بالنسبة الى السياسة تجاه إيران.

وعلى سبيل المثال، نَقلت «فورين بوليسي» أنّ ترامب كان يَسأل عن إمكانية إظهار طهران وكأنّها لا تلتزم الاتّفاقَ النووي، فيما وزارة الخارجية وأركان إدارة ترامب يرفضون ذلك ويَعتبرونه تهوّراً وجنوناً يهدّد مصالح واشنطن في الشرق الأوسط.

فالنظرة الاميركية الجديدة هي لإنشاء اصطفاف جديد في الشرق الاوسط، واحد من ايران حتى لبنان وتمسِك ببعض مفاصِله روسيا، في مقابل اصطفاف يضمّ دولَ الخليج والأردن، وسيتمّ ضمُّ إسرائيل إليه بعد إنجاز التسوية مع الفلسطينيين.

هذا الانقسام يَجعل الولايات المتحدة الاميركية في الظاهر الى جانب المحور الخليجي، فيما فعلياً تساهم في منحِ المقوّمات المطلوبة لـ»الهلال الشيعي» لكي يستطيع التوازن مع المحور المقابل، وتدخل معهما المنطقة في استنزاف طويل الأمد ولعقود عدة مع إبقاء ضوابط التوازن المطلوب في يد واشنطن.

وهذا الانحياز الاميركي في الظاهر يستوجب مواقفَ معلَنة مرّةً لإرضاء، أو ربّما تشجيع، المحور الخليجي، ومرّةً أخرى لإرضاء الشارع الأميركي.
ووفقَ ذلك تدخل مسألة إدراج عقوبات جديدة ضدّ «حزب الله» في هذا الإطار، ما يعني أنّ العقوبات حاصلة ولكنّها فعلياً لا تبدو مؤذيةً جدّياً لـ«حزب الله»، وبتعبير آخر قنبلة صوتية أو ربّما قنبلة دخانية. لذلك ربّما بدا كلام ترامب المكتوب والمُعَدّ سلفاً بلا دسَم، تحاشياً لتجاوزِ الخطوط المرسومة.

في المقابل وعلى ساحات الشرق الاوسط المفتوحة، تبدو ايران ملتزمةً التفاهمات الاميركية - الروسية حول المنطقة الجنوبية لسوريا، لكنّها مشاكِسة ومشاغبة في الساحة الأصعب والتي لا تزال خارج التوافقات، أي ساحة القدس.

وجاءت عملية «الجهاد الإسلامي» الجريئة في محاولةٍ لإعادة خلطِ الأوراق وإشعال الساحات وضربِ المفاوضات. ونجَحت ايران في ذلك الى حدٍّ ما. ففي وقتٍ وجَد معارضو التسويات الإسرائيلية - الفلسطينية في ما حصَل مناسبةً لدخولهم على الخط، اشتعَلت الساحة الفلسطينية ومعها أيضاً الساحة الأردنية.

لكنّ ترامب المشغول بملفّات الداخل، آثرَ تركَ الأزمةِ تأخذ مداها، ولم يتدخّل مباشرةً، ربّما لجعلِ أصابع نتنياهو تحترق قليلاً، ما سيَدفعه الى خفضِ سقفِه التفاوضي المرتفع. لكنّ امتداد التوتر الى الاردن أظهرَ أنّ الساحات لا تزال صعبة وقدرة اشتعالِها سريعة، وإلّا كيف يمكن تفسير الدعوات الى استهداف اليهود في الأردن حيث التعاون وثيق بين أجهزة البلدين. ومعه بَدت رسالة طهران وكأنّها أنتجت مراميها: «إبعادي عن الجولان لا يعفي أنني موجودة في القدس مع قدرة حركة واسعة».

تبقى الإشارة ايضاً الى حاجة واشنطن الماسّة إلى الحضور الروسي الكبير في سوريا، والأهم حاجتُها الى مساعدة موسكو في ملفّ صواريخ كوريا الشمالية، والذي يبدو أنّه بدأ يُنتج تعاوناً صينياً في هذا الإطار. ولهذا أثمانُه التي لا بدّ أن تدفعها واشنطن في أماكن أخرى.

من أجل كلّ ذلك، تبدو إدارة ترامب في حاجة إلى سياستين، واحدة فعلية ترتكز على التسويات والصفقات، وثانية إعلامية ترتكز على التلويح والتهديدات ولكنْ خالية من المضمون. والأهمّ أنّ على لبنان أن لا يخطئ التقدير كما في محطات كثيرة حصَلت قبل الآن.