كما توقّعَ الخبراء العسكريون من كلّ الأهواء والاختصاصات، فإنّ معركة تلال القلمون - عرسال ستكون قصيرةً ومن دون كلفة تُذكر. فكلّ التوقّعات بفقدان المجموعات المسلّحة لمقوّمات الصمود بانت في مواجهة ضغوط عسكرية أرضية وجوّية في منطقة جرداء سَمحت باختبار كلّ أنواع الأسلحة. وفي ذروة العملية العسكرية كشِف النقاب عن طلب وساطة قطرية قد تُسرّع الحلول والانسحابات. فما هي الظروف التي قادت إليها؟
 

وفي اليوم الثالث من عملية استعادة السيطرة على تلال فليطة السورية وعرسال اللبنانية والقلمون الشمالي التي يخوضها النظام السوري برّاً وجوّاً ومعه «كتيبة الرضوان» من وحدات النخبة والقوّة الصاروخية في «حزب الله» بغية طردِ مجموعات «النصرة» من مواقعها في المنطقة، فقد ظهر واضحاً أنّ المفاوضات لم تتوقّف لحظة بين الطرفين.

وهي مفاوضات بدأت قبل فترة بوساطة «هيئة وجهاء القلمون» ووسطاء لبنانيين وسوريين محلّيين قبل ممارسة الضغط العسكري الذي لم يتوقّف منذ ما قبل بدء العملية العسكرية البرّية فجر الجمعة الماضي بعشرة أيام تقريباً.

وقبل ساعات قليلة على الحادث الذي أدّى إلى «اغتيال» النائب السابق لرئيس بلدية عرسال الوسيط اللبناني أحمد الفليطي كانت حركة المفاوضات قد توسّعت وانتقلت الى مكان آخر، وهو ما فسّرته مصادر كانت تتابع سيرَ المفاوضات في تلك الفترة بأنّ عملية الاغتيال التي نُفّذت بحقّه بأمر قائد وحدات «النصرة» أبو مالك التلّي مباشرةً، ربّما على خلفية انتهاء الدور الذي كان يقوم به.

وفي المعلومات المتداولة في الساعات الأخيرة أنّ المفاوضات التي شَملت القيادة التركية عبر وسطاء روس وإيرانيين قد اصطدمت برفضِ القيادة التركية استخدامَ أراضيها لنقلِ التلّي ورجاله وعائلاتهم عبرها إلى الشمال السوري، وهو ما دفعَ إلى إعادة البحث في استخدام معابر آمنة على الأراضي السورية كان يرفض التلّي سلوكَها قبلاً على رغم إصرار الجانب السوري والإيراني و«حزب الله» عليها بالشروط التي حَكمت المصالحات السابقة التي رافقت التبادل السكّاني بين الزبداني ومضايا من جهة والفوعة وكفَريا من جهة أخرى.

وعلى هذه الخلفيات قالت المصادر إنّ المفاوضات الإقليمية التي سبَقت ورافقت بدءَ العملية البرية أدّت إلى إدخال القيادة القطرية مرّةً أخرى على خطها، فلم ترفض الطلب بل جدّدت اتصالاتها عبر وسطائها المعتمدين في أنقرة والشمال السوري، وهو ما تبَلّغته قيادات لبنانية رسمية تُواكب العملية لاحقاً في اعتبار أنّ معظم العمليات العسكرية قد انطلقت من الأراضي السورية وأنّ استهداف مواقع المجموعات الإرهابية على أراضٍ لبنانية وسوريّة متداخلة لم يكن سوى نتيجة طبيعية لهذه العملية بوجهها العسكري تحديداً.

وأيّاً كانت التفسيرات السياسية الأخرى التي تناولت دورَ السلطات الرسمية اللبنانية في هذه العملية، والجيش اللبناني تحديداً، فالجميع يعرف أنّ مهمّاته والقوى اللبنانية المسلّحة اقتصرَت على حماية مخيّمات النازحين السوريين ومنعِ المسلحين من العبور إلى عرسال والمخيّمات المدنية.

مع العِلم أنّ كلّ ما جرى على الأرض في تلك المنطقة كان في حضور ومراقبة اللجنة الدولية للصليب الأحمر وهيئات الإغاثة الدولية العاملة في المنطقة والتي كانت شاهداً على انتقال عشرات العائلات السورية من المخيّمات الواقعة خارج نطاق انتشار الجيش إلى عرسال والمخيّمات الواقعة في نطاق انتشاره.

وعليه، يَعتقد المراقبون أنّ الوساطة القطرية قد حقّقت شيئاً ممّا يخطَّط له في مرحلةٍ انحصَر فيها الهمُّ بمعالجة مصير مجموعات «النصرة» وبعض الفصائل الأخرى قبل بلوغ المرحلة الثانية التي ستبدأ فيها المعركة ضد «داعش».

فقد سلّمت مجموعة «سرايا أهل الشام» المنشَقّة سابقاً عن «داعش» و«النصرة» أمرَها وأعلنَت وقفَ نارٍ من جانبٍ واحد وخرَجت من المواجهة السبت الماضي في اليوم الثاني من المعركة البرّية وأبدت استعدادها للانتقال إلى الشمال السوري.

وعليه، يُراهن المراقبون على التوصّل إلى وقفِ نارٍ جديد بين «حزب الله» و«النصرة» في الساعات المقبلة، بعدما اشتدّ الحصار عليها في انتظار أن تؤتي الوساطة القطرية نتائجَها لجهةِ تحديد المنطقة التي سيلجأ إليها نحو 820 مسلّحاً من «النصرة» وعائلاتهم إلى منطقة سوريّة صديقة لهم، والطرقِ التي ستَسلكها وما سيُسمح لها بنقله من أموال وعتاد إليها. فلم يعُد في إمكان قائدهم أبو مالك التلي فرضُ شروطه بعدما ضاقت به السبل ولم يعُد قادراً على الاستمرار في المواجهة.

وبناءً على ما تقدَّم يتوقّع المراقبون أنفسُهم أن تجد الوساطة القطرية حلولاً تفرض وقفاً مؤقّتاً للنار قبل أن تنتقل المفاوضات إلى البحث في مصير المنطقة التي تسيطر عليها «داعش» وهي منطقة معزولة وغير مرتبطة جغرافياً بالأراضي اللبنانية لوقوعها خلف خطوط «النصرة» وفي التلال الواقعة قبالة جزءٍ من جرود عرسال الشمالية وصولاً إلى تلك التلال المواجهة لرأس بعلبك والقاع والقرى المحيطة بها، وهو ما سيقود إلى مواجهات على أراضٍ سوريّة بحتة تقع على تماس مع أراضٍ لبنانية.

وعليه، من المفيد جداً، حسب المراقبين، انتظار ما ستحمله الساعات المقبلة من مخارج جنّدت لها العملية العسكرية لتكون معبراً إليها، فتنتهي المواجهة مع «النصرة» لتفتح على صفحة جديدة مع «داعش»، فالقرار الكبير الذي ظلَّلَ العملية لم يفرِّق بينهما، وما على اللبنانيين سوى انتظار أحداث الأيام المقبلة.

فالسلطة اللبنانية لم تتدخّل في العملية أيّاً كان تفسير تركِها الميدان لـ«حزب الله» سواء سُمّي تنازلاً عن الصلاحيات والمهمّات التي أنيطَت بها، أم لأسباب أخرى مختلفة؟.