المعتقل كشف كلّ أسير على حقيقته. فالمبدئي في الخارج بقي كما هو، والإنتهازي في الخارج بقي كما هو
 

كان ذلك في مثل هذا اليوم من العام ١٩٨٢ عندما حضر " جنود الحديد " إلى ملعب المدرسة واعتقلونا، أنا وأصدقائي، وجرّونا إلى عدة معتقلات، من بينها مدرسة الريحان، معمل صفا، مرج بن عامر ومن ثم لإقامة إستمرت حوالي الأربعمائة يوم في معتقل أنصار.
كنت في السابعة عشرة وثلاثة أشهر من عمري، وكذلك الكثير من زملاء القيد والعصبة والخيم، عندما أطبق علينا هؤلاء الجنود بمساعدة من ساقطين، لا داعي الآن للتحدّث عنهم، ولا لتدنيس صفحتي بأسمائهم.
أن لا يكون الشخص قد بلغ سن الرّشد عندما يتعرّض لتجربة إعتقال قاسية فهذا يعني له الكثير ويترك في نفسه الكثير. فالحديث عن المعتقل يطول ويتفرّع، فمنهم من رآه " معمل بطولة "، وآخرون رفعوه إلى درجة المدرسة المقدّسة. 
معتقل أنصار كان أشبه بمدينة يقطنها كلّ أنواع وأشكال وأجناس البشر، فيها الصالح والطالح والشجاع والجبان وإلخ.

إقرأ أيضا : حوار مع إسلامي يفكر مثله بالملايين
إذا تمّت الأمور كما هو مخطّط لها، فإن مقدار النصف تقريباً من الكتاب الموعود، الذي سأصدره بعد حوالي الأربعة أشهر، سيتناول هذه التجربة من منظار من دخل أنصار ١ منذ إفتتاحها لغاية إقفالها.
فالمعتقل كشف كلّ أسير على حقيقته. فالمبدئي في الخارج بقي كما هو، والإنتهازي في الخارج بقي كما هو. لا يمكن أن تساوي بين من سرق حصة طعام زميله المعتقل مع معلّم عمل على إقامة دورة تعليم لغوية، ولا بين من أشار للجنود على نفقٍ حُفر مع من حفر ذلك النفق، ولا بين من عمل على إصدار منشورات ترفع معنويات المعتقلين مع آخر كان يبحث عن مراهق يعاشره مقابل بيضة مسلوقة أو مقدار ملعقة من المُربّى.
لا يمكننا الحديث عن معتقل أنصار كمقلع بطولة. هذا المكان كان كذلك للبعض، ولكنه في المقابل كان مقلع نتانة وقذارة كانت تعشعش في الكثير من أفراد المنظمات، التي كانت تُسَمى " ثورية ". من الصعوبة أن تكون بطلاً في أنصار، ولكن من السهولة أن تصير قذراً حقيراً تُشبه جندي الحديد في برج الحراسة أو على ملالة الدورية. فالبطولة ليست مجرد لقب، هي فعل وصمود وإحترام النفس في اللحظات الصعبة، لحظات الجوع والهزيمة والعطش والقمل والحرّ والبرد. 

إقرأ أيضا : الإنفتاح الإجتماعي في البيت النبوي
ليس كلّ " أنصاري " بطلا، وليس كلّ أنصاري وغداً ولكن الأوغاد كانت كثيرة، والوغد هو الأقوى لأنه يعرف كيف يفرض سلطته وسطوته على العاقل وينتصر عليه. 
أنصار لا تستحقّ كل ما كتب عنها وعُزِف لها وبإسمها... ذلك الرّجل الذي غمزني بعيونه الماكرة كي أدخل خيمته وفراشه لا يمكن أن يعوّل عليه ببناء ثورة منتجة أو عائلة صالحة أو مجتمع متقدّم، وذلك " الأخونجي " الذي إتهمني بسرقة الحبوب المخدرة من جيب سترة طبيب " لأن الشيوعيين فقط يتعاطون المخدرات والمسكرات " على حدّ قوله، وقرّر أن أُقتل لأَنَّنِي مُلحد وسارق، هذا أيضاً لا يُعوّل عليه ببناء ثورة أو مجتمع أو عائلة.
رائحة القذارة في نفوس الكثيرين من المعتقلين كانت تنافس تلك الخارجة من الجُوَر الصحية الطافحة. 

إقرأ أيضا : ولماذا الخوف من حكم الإسلاميين ؟
حقيقة نعرفها جميعنا، ولكن سباقنا على التعلّق بالأوهام والكلام الكبير جعلنا نتغاضى عن ذكرها. جلد النفس ليس شيئاً شائناً عندما يكون بخدمة الأجيال الجديدة. 
تحية إلى معتقلي جرجوع الذين إنتموا وبكل فخر إلى فئة المناضلين المثاليين في داخل المعتقل. أثبتوا جدارتهم في تحمّل كلّ العذابات من أجل مبادئ آمنوا بها بحقّ.
التحية الكبرى لكل إسم منكم. هي جرجوع، وأنتم واجهتها الجميلة المشرِّفة!

 

( نقلا عن صفحته على الفايسبوك )