إنه وقت طويل فعلا، أفلم يحن الوقت بعد؟
 

النقاش؛

انها العاشرة قبل الظهر، استفاقت هذه المنطقة كعادتها ضاحكة باسمة لاستقبال يوم جديد، كانت تنبض بالحياة، كل شيء هادىء فيها، الناس تمارس حياتها الطبيعية بكل اطمئنان، كل منهم يستقبل نهاره على طريقته، وبما يعنيه، وشوارعها تصرّح بما تعنيه هذه المنطقة من وداعة وحيوية وملتقى للجميع.

انها العاشرة والدقيقة 25، دوّى ذلك الصوت الرهيب .. إنها سيارة مفخخة.. الناس خائفة، مذعورة الى حدّ الرعب، تائهة بين الشظايا ونتف الزجاج المحطم والانقاض فاقدة الاتجاهات، صراخ موجع، مخيف، دماء، دمار، نار؛ مشهد يرجّف ابعد واعمق مكان في الجسم.

المنطقة اختنقت بسحابة كثيفة من الدخان، النار تأكل الارض وما عليها، احدى السيارات القريبة من السيارة الجانية مصابة بأضرار كبيرة جعلها عصف الانفجار وقوته تطير في الهواء ثم تتحطم وتنكمش على بعضها.. صوت ينادي: هناك احياء في داخلها تغطيهم الدماء، ركض الناس اليها. صوت يصرخ: إنه الياس المر!

كان ذلك قبل اثني عشر عاما، يوم الثلاثاء 12 تموز 2005.

في ذلك اليوم، خرج "ابو ميشال" من بين الجمر والنار والرماد والركام والحطام والانقاض حيًّا، لقد كانت معجزة إلهية. ومنذ ذلك اليوم، بدأت رحلة طويلة وشاقة مع المعاناة والألم وتجاوز عشرات العمليات الجراحية بنجاح، بل كيّف نفسه معها لأنها اصبحت ملازمة له بين حين وآخر وحتى الامس القريب.

وعلى رغم كل هذا الوجع، عضّ الياس المر على كل تلك الجراح، وبقي متماسكا ولم يزده ذلك الا صلابة وقدرة فائقة على الصبر والتحمل، فأثبت خلال هذه الرحلة الطويلة قدرة فائقة على مقارعة هذه المحنة.

وحده الياس المر، (والوزير مروان حمادة والزميلة مي الشدياق) يعرف معنى ان يصبح الانسان في لحظة معيّنة "مشروع شهيد"، كاد يسقط في مسلسل الاغتيالات التي عصفت بلبنان، ومع ذلك حبس الوجع الشخصي الذي سبّبته تلك المحاولة، في قلبه وكيانه ومعاناته.

وفاجأ الجميع بأن ترفّع، واسقط لغة الانتقام والثأر، وتجاوز آثار تلك المحاولة المشؤومة بالسياسة ورفض ان تدخل من قريب او بعيد في بازارات المزايدة والاستثمار السياسي.

تلك المحاولة، اصابت الياس المر في شخصه، وكذلك في ما كان يمثله آنذاك من شخصية محورية في المعادلة الداخلية، وفي الدور المركزي الذي كان يمثله في ادارة الامن في تلك الفترة. لقد كان موجودا على رأس وزارة الدفاع في مرحلة كان يسودها الكثير من الضبابية والحساسية وعلامات الاستفهام، كان لبنان على مفترق طرق خطيرة، والاقل خطورة فيها تؤدي الى المجهول والفوضى التي كان يُعمل على نشرها.

نجا الياس المر، ولم تستطع المحاولة المشؤومة باستهدافه، ان تنال من تلك العائلة المتنية التاريخية، او بالاحرى تلك المدرسة التي اسسها ووضع ركائزها "ابو الياس"، ولها دمغتها الخاصة في السياسة اللبنانية وعلى مدى عقود، بل شكلت حدثا مفصليا في تاريخ هذه العائلة، لتخرج من تحت رماد هذا التحدي الخطير الذي واجهته في 12 تموز 2005، لتثبت من جديد عمق تجذرها في الارض، وحجم ارتباطها التاريخي في وجدان المتنيين، وايضاً حجم حضورها ودورها على المستوى الوطني.

لم يتوقف الزمن عند الياس المر، هناك في 12 تموز 2005، بل فتحت امامه آفاق واسعة بوأته رئاسة مجلس ادارة مؤسسة الانتربول، فكانت له بصماته المشهود له فيها من خلال العديد من البرامج والانجازات على الصعيد الدولي، وذلك في سياق مبادراته لتعزيز أولويات الإنتربول الاستراتيجية في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وصولا لجعل العالم أكثر أمانا وسلامة.

اعطى الياس المر هذا المنصب ما يتطلبه من كبير جهد وحرص على النجاح، مستفيداً من رصيد تجربته الشخصية في وزارتي الداخلية والدفاع، والتي اجمع الجميع حينذاك على تقدير هذه التجربة، وعلى حالة الترفع التي ادى من خلالها دوره، وارتفاعه عن الـ"انا" لمصلحة الكل.

واستطاع من خلال ذلك ايضاً ان يكرس قواسم مشتركة مع الجميع، بحيويته وتأثيره وحضوره وبمحاولته دائما ان يؤكد على حضور الدولة ودورها، فضلاً عن علاقاته العربية والدوليّة التي انفتح فيها الى ابعد مدى، ونسجها بخيوط متينة من الثقة والاحترام، ولم يتنكر لها ولو للحظة واحدة.

لقد صار تاريخ "12 تموز" محطة سنوية لاستذكار المحاولة المشؤومة ودلالاتها وابعادها واستهدافاتها، وللتذكير بتلك الايادي الشيطانية السوداء التي خططت لها وحاكت خيوطها ونفذتها.

ومن حق الياس المر الا ينسى ذلك اليوم. وحقه الطبيعي دائماً وابداً، ومن حق اللبنانيين أيضاً ان يعرفوا من أمر وخطّط ونفّذ محاولة اغتياله وشطبه من المعادلة الداخلية. فلا اتهام لأحد ولا تبرئة لأحد..

لقد انقضت 12 سنة والغموض يحجب صورة الجاني، ليس فقط صورة واسم من حاول اغتيال الياس المر بل صورة الجناة المسؤولين عن سائر الجرائم السياسية التي ارتكبت وما زالت محاطة بالغموض وبالكثير من علامات الاستفهام...

إنه وقت طويل فعلا، أفلم يحن الوقت بعد؟