من الواضح لدى كثير من الدوائر السياسية والحزبية أنّ ما قبل «وثيقة بعبدا» هو غير ما بعدها. فقد انطلقَ مسار التنسيق بين الأحزاب الحكومية ليجرفَ في دربه الأطراف الأخرى في مختلف الاستحقاقات، وهو ما ينبئ بعملية مسحٍ جديدة للنقابات وفي الإدارة. وما نتائج انتخابات نقابة المعلّمين إلّا «بروفا» أوّلية، وها هي الاستعدادات جارية لإلغاء آلية التعيينات الإدارية، فما الدافع إلى هذه القراءة؟
 

بعيداً من مسلسل الوعود بتعزيز كلّ أشكال التغيير وتعزيز الديموقراطية وفتحِ السباق أمام الكفايات للدخول إلى الإدارة والمؤسسات الرسمية، يبدو لكثيرٍ من المرجعيات السياسية والحزبية أنّ بعض ما جرى حتى الآن، وما هو متوقّع، يَعوق تنفيذ هذه الوعود ويضعها مغلّفة للحفظِ على الرفوف إلى مدى من الصعب تحديدُه أو انتظار نهاياته.

والحديث عن هذه الحقائق له ما يبرّره ويدلّ إليه، فالخلافات القائمة في ما تبَقّى من تعيينات وتشكيلات في بعض المراكز الإدارية والديبلوماسية والقضائية لم تتوافر لها المخارج بعد، على رغم طرحِها على قاعدة تقاسُم النفوذ ما بين القيادات السياسية والحزبية المتحكّمة بمواقع القرار على أكثر من مستوى.

وعليه، يتبادل المسؤولون الكبار في الصالونات الضيّقة والمقفلة الحديثَ عن المفاوضات الجارية حول بعض المراكز في وزارات ومؤسسات عدة في الكواليس التي يديرها وسطاء وأصدقاء مشتركون أتقنوا فنونَ المفاوضات حول المواقع الدسمة في المفاصل التي تتحكّم بالإدارة.

ولا يتوانى البعض عن الإشارة الى العروض المتبادلة ومعها سيلٌ من الإغراءات عن أهمّية هذا الموقع أو ذاك، من دون أن تغيبَ عنها الاتّهامات الخفية المتبادلة على خلفيات عدة.

وفي التفاصيل حديثٌ مستفيض عمّا يعوق التشكيلات الديبلوماسية والقضائية، عدا عن التعيينات في بعض المؤسسات والهيئات المستقلة، كما في بعض المؤسسات التربوية والجامعية من ضمن سلال متعدّدة تستند في جوانب منها إلى نظرية المداورة في بعض المواقع لتبرير إصرار بعض القيادات على لائحة من المواقع والمراكز التي يرغب بها، وأخرى تستند الى خلفية استعادة حقوق سلِبت في غفلة من الزمن وحان أوانُ استعادتها، وصولاً إلى المطالبة بتصحيح خَلل مزمن في هذا الموقع أو ذاك.

وزاد الطينَ بلّة أنّ مشاريع التعيينات والمناقلات بلغَت صفوف المتبارين المرشّحين الى هذه المواقع، فاندلعَت سلسلة من الحروب الصغيرة المتبادلة بين الموظفين داخل الوزارات والمؤسسات العامة وبدأت تؤسس لنزاعاتٍ وَضعَتهم ومعهم المعيّنون من خارج الملاك، على لائحة طلبات المواعيد والانتظار لدى هذا المرجع أو ذاك.

وبعيداً من تناوُل حالات محدّدة، تكفي الإشارة الى التعثّر الذي أصابَ المناقلات القضائية وسط حديثٍ متنامٍ عن مرور سنين عدة من دون إجراء أيّ مناقلات في مواقع محدّدة، وهو ما شرّع الأبواب على نزاع مفتوح بين المرجعيات تزامُناً مع السباق إلى هذا المركز أو ذاك. وكلّ ذلك يجري على وقعِ سلسلةٍ من مشاريع المناقلات والتعيينات الديبلوماسية التي لم تنتهِ بعد إلى أيّ تفاهم على رغم تبادلِ الصيغ واللوائح منذ أشهر عدة، ما أدّى إلى «كربَجة» ما هو مقترَح من جداول.

وكما في السلك القضائي والأمني ـ في إشارة الى تعيينات قوى الأمن الداخلي - كذلك في الديبلوماسي، فقد تشابكت الشروط على خلفيات طائفية وسياسية ومذهبية في آن. وزاد الطين بلّة عند الحديث عن شروط تلقَّتها المراجع المختصة برفضِ سفراء وديبلوماسيين من طوائف أو مذاهب محددة في بعض العواصم العربية والخليجية تحديداً.

وهو أمرٌ ما زال قيد التدقيق في دوائر معنية للتثبتِ من صحّة هذه المعلومات والفصلِ النهائي بين اعتبار ما تَردّد أنّه من باب الإشاعات أم لا. عدا عن التساؤل عن أنّ ما طرَأ، في حال ثبوته، هل كان بقرار خارجي؟

أم بتمنّيات ونصائح لبنانية تمّ تسويقُها لدى هذه العواصم، وهو أمرٌ، في حال ثبوته، لن يكون مستغرَباً من جوانبه المختلفة، فقد بلغَت حدّة المعارك مجالاً يَسمح للبعض باستغلال كلّ الوسائل للوصول إلى المبتغى، سواء كانت مشروعة أم لا؟.

وإلى هذه المعطيات التي أحاطت بالتعيينات الإدارية والديبلوماسية والقضائية المتعثّرة ثمّة اقتراح قديم - جديد تمَّ إدراجُه في البند 20 من جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء المقرّرة غداً في السرايا الكبير تحت عنوان «إعادة النظر بآلية التعيينات» من دون أن يتضمّن تذكيراً بالآلية المعتمدة منذ سنوات عدة ولا بالمشاريع البديلة المقترحة، وهو ما فتح الباب أمام مناقشات لن تنتهيَ في جلسة الغد.

ومرَدُّ ذلك أنّ هناك إصراراً لدى بعض «الوزراء الأقوياء» على عدم المسّ بها وإعادةِ تفعيلها لإتمام التعيينات في مواقع الفئة الأولى على اساسها سعياً وراء فتحِ أبواب المنافسة بين اصحاب الكفايات في مواجهة دعاة تعيين الأصدقاء والمحازبين وإعطاء الحرّية للوزراء، كلٌّ في وزارته، باقتراح من يشاء للمواقع الشاغرة، أو تلك المعرَّضة للمناقلات والتشكيلات.

ولذلك يخاف العارفون بكثير من طموحات البعض للاستئثار بالسلطة ومكامن القوة في الإدارات الرسمية، من أن يفتح إلغاءُ الآلية المعتمدة البابَ واسعاً أمام نشوء الكانتونات السياسية والمذهبية والحزبية في بعض المؤسسات، فالنماذج التي تقدَّم بها البعض في بعض المؤسسات المالية ـ السياحية والطبّية ماثلةٌ للعيان، ويُخشى من تكرار التجارب بالطريقة عينها ما ينعكس استئثاراً بالسلطة لم يَشهده لبنان سابقاً، لا على مستوى التعيينات أو على مستوى تشكيل إدارات الظلّ من المستشارين في بعض الوزارات التي أنهَت أدوارَ الموظفين الكبار وجعلتهم عاطلين عن العمل.

وقبل الغوص في كثير من التفاصيل ثمّة من ربط بين «بروفا انتخابات» نقابة المعلمين التي جرت أمس الأول وتقاسم مقاعدها بين أعضاء «لقاء الأحزاب الحكومية» في بعبدا بكلّ صراحة والسعي إلى إلغاء «آلية التعيينات» لفكِّ العقَد امام استكمال التعيينات في «تلفزيون لبنان» والسلكين القضائي والديبلوماسي، بحيث يفتح المجال واسعاً أمام تقاسمٍ أوسع للمواقع بين أهل الحكم والحكومة ربّما يكون ترجمةً للتفاهمات التي نمت على هامش «وثيقة بعبدا» التي دعت صراحةً إلى تنسيق الجهود بين ممثّلي الأحزاب المشاركة في الحكومة دون سواها لقيادة المرحلة المقبلة وإدارة الدولة ومؤسساتها وقطعِ الطريق على المعارضين الساعين إلى منافستهم في أيّ موقع كانوا.