دفعت التطورات التي طرأت على الساحتين الداخلية والإقليمية إيران إلى تبني سياسة جديدة تقوم على محاولة استعراض ما لديها من قوة لم يختبر معظمها من قبل، وهي المرة الأولى التي تقوم فيها إيران بإطلاق صواريخ خارج حدودها منذ انتهاء الحرب مع العراق عام 1988
 

دخل الانخراط الإيراني في الصراع السوري مرحلة جديدة مع إطلاق القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري ستة صواريخ متوسطة المدى على مواقع قالت طهران إنها تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في مدينة دير الزور السورية في 18 يونيو 2017.

ورغم أن إيران زعمت أن تلك الضربات، التي استخدمت فيها صواريخ من طراز “ذو الفقار” و”قيام”، جاءت ردا على الهجمات التي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عنها واستهدفت الملحق الإداري التابع لمجلس الشورى الإسلامي وضريح الخميني في 7 يونيو 2017، فإن ذلك لا ينفي أن ثمة رسائل عديدة سعت إيران إلى توجيهها إلى قوى إقليمية ودولية معنية بتطورات الصراع في سوريا والدور الإقليمي لإيران ونفي علاقتها بتنظيم داعش.

ويكمن أحد أهداف النظام الإيراني من وراء هذه الخطوة في احتواء الانتقادات التي تعرضت لها في الفترة الماضية، بسبب القصور الأمني الذي كشفت عنه العمليات التي وقعت في العاصمة طهران وداخل إحدى أهم المؤسسات السياسية في النظام وهي مجلس الشورى، إلى جانب ضريح مؤسس الجمهورية آية الله الخميني الذي يحظى بمكانة خاصة داخل إيران.

وحرص الحرس الثوري على إصدار بيان في 21 يونيو 2017، أشار فيه إلى أن الضربات الصاروخية، التي وجهت بالتنسيق مع عناصر فيلق القدس الذي يقوده الجنرال قاسم سليماني حققت نتائج بارزة وأسفرت، حسب ما جاء في البيان، عن مقتل 170 من قادة وكوادر داعش وتدمير عدد كبير من معداته العسكرية.

وربما تكون الرسالة الأهم موجهة إلى الرئيس حسن روحاني الذي سعى الباسدران من خلال تلك الضربات إلى تأكيد استقلاليته عن سياسة الأخير، لا سيما وأنه يتلقى تعليماته من المرشد الأعلى للجمهورية مباشرة، وهو ما بدا جليا في تأكيد الحرس، في البيان السابق، على أن القائد العام للقوات المسلحة – في إشارة إلى خامنئي- أشرف بالكامل على عملية ليلة القدر، وهو الاسم الذي أطلقه على تلك الضربات.

تشير الضربات إلى أن إيران بدأت في الاستعداد للتصعيد المتوقع مع الولايات المتحدة المرحلة القادمة، والذي لن يقتصر على الاتفاق النووي فقط، وإنما سيمتد أيضا إلى الملفات الإقليمية، على رأسها الملف السوري، في ضوء الاهتمام الخاص الذي تبديه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوجود إيران في سوريا ودعمها المتواصل لنظام الأسد، الذي ترى أنه أحد أسباب إطالة أمد تلك الأزمة دون وصولها إلى حل.

الباسدران يسعى إلى تأكيد استقلاليته عن سياسة الرئيس حسن روحاني وأنه يتلقى تعليماته من المرشد الأعلى مباشرة

تحديات جديدة

أعقب الضربات إصدار مجلس الشيوخ الأميركي في 15 يونيو 2017 قانون “مواجهة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار 2017” الذي ينتظر تصويت مجلس النواب وتوقيع الرئيس ترامب عليه ليتحول إلى قانون ملزم، وهو احتمال قائم بقوة في ظل التوجهات السلبية التي يتبناها ترامب والجمهوريون إزاء الاتفاق النووي، الذي يبدو أن استمرار العمل به سوف يواجه تحديات عديدة خلال المرحلة القادمة، بعد أن كلف الرئيس ترامب الوكالات التابعة لمجلس الأمن القومي بإجراء عملية مراجعة للاتفاق لدراسة مدى توافقه مع المصالح الأميركية.

ويتمثل أحد أهداف تلك الضربات الصاروخية في تأكيد أن البرنامج الصاروخي الإيراني سوف يبقى في رؤية طهران خارج نطاق المفاوضات مع القوى الدولية، حتى لو أدى ذلك إلى تصعيد حدة التوتر في العلاقات مع الأخيرة والتأثير سلبيا على الاتفاق النووي.

وتدعي إيران أن قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي صدر بعد التوصل إلى الاتفاق النووي في 20 يوليو 2015، لا يفرض قيودا على برنامجها الصاروخي بذريعة أن صواريخها الباليستية ليست مخصصة لحمل أسلحة نووية، وهي النوعية التي طالب القرار الأممي بوقف الأنشطة الخاصة بتطويرها، ما يعني أن إيران دائما ما تبحث عن “ثغرات” للالتفاف على أي التزامات دولية قد تقيّد أنشطتها النووية. وتزامنت الضربات الصاروخية مع قيام واشنطن بإسقاط مقاتلة سوخوي 22 تابعة للنظام السوري كانت تلقي قنابل في ريف الرقة الجنوبي بالقرب من المنطقة التي تتواجد فيها قوات سوريا الديمقراطية، وهي الميليشيا الكردية العربية التي تتلقى دعما من جانب واشنطن في إطار الحرب على تنظيم داعش.

واعتبرت إيران أن هذه الخطوة التي اتخذتها واشنطن تؤشر إلى اتجاهها نحو العمل على وضع عقبات أمام الجهود التي تبذلها طهران والنظام السوري والميليشيات الطائفية الموالية لها – في سوريا أو العراق- من أجل تأسيس ممر استراتيجي يصل بين إيران وسوريا عبر العراق، خاصة وأن تلك الخطوة لم تكن الأولى من نوعها، وسبق أن قامت الولايات المتحدة بقصف رتل عسكري تابع لإحدى تلك الميليشيات بالقرب من قاعدة التنف التي يستخدمها التحالف الدولي ضد داعش.

وحاولت إيران الإيحاء بالعمل على تأسيس هذا الممر الذي يعتبر محورا رئيسيا في استراتيجيتها القائمة على مواصلة دعم النظام السوري والحلفاء الآخرين من التنظيمات الإرهابية على غرار حزب الله والضغط على إسرائيل من خلال الوصول إلى ساحل البحر المتوسط.

ولم يكن اختيار إيران لمدينة دير الزور تحديدا لتوجيه هذه الضربات مصادفة، ليس فقط لأنها ربما تصبح المعقل البديل لتنظيم داعش بعد تعرضه لضربات قوية من التحالف الدولي وأطراف أخرى في كل من الموصل والرقة، بل إنها تسعى إلى كسب أهمية استراتيجية من خلال هذه المدينة كونها تقع على الطريق الرئيسي الذي تسعى طهران إلى تأسيسه، وربما يكون محورا للصراع بينها وبين الولايات المتحدة في المرحلة القادمة.

إيران لا تبدي ارتياحا إزاء إصرار موسكو على التوصل إلى تفاهمات مع تركيا تحديدا. وزادت مخاوفها من إمكانية اتجاه موسكو إلى تكرار السياسة نفسها مع الولايات المتحدة

حذر تجاه روسيا

رغم ما يبدو على السطح من وجود تنسيق عالي المستوي بين إيران وروسيا في التعامل مع التطورات الميدانية والسياسية في سوريا، فإن هذا لا ينفي أن طهران لديها مخاوف عديدة من الدور الذي تقوم به موسكو في الأزمة السورية.

وهو ما يسير عكس الانتقادات التي وجهتها موسكو لواشنطن مؤخرا عقب إسقاط مقاتلة النظام السوري وتهديدها باعتبار أي أجسام طائرة في مناطق عمل قواتها الجوية في سوريا أهدافا مع تجميد العمل بمذكرة سلامة الطيران الموقعة مع واشنطن.

ساهمت روسيا، منذ رفع مستوى انخراطها عسكريا في الصراع في سبتمبر 2015، في تغيير توازنات القوى على الأرض وتعزيز موقع النظام السوري في المفاوضات التي أجريت مع قوى المعارضة في جنيف وأستانة، وقلّص هذا الدور، إلى حد ما، من نفوذ إيران ودفع قوى إقليمية ودولية عديدة إلى محاولة الوصول إلى تفاهمات مع موسكو في سوريا وتجاهل الدور الذي تقوم به إيران على الأرض، باعتبار أن تلك التفاهمات يمكن أن تدفع موسكو إلى كبح جماح إيران وحلفائها في سوريا، وتقييد قدرتهم على إجراء تغييرات في مسار الصراع.

لذلك لا تبدي إيران ارتياحا إزاء إصرار موسكو على التوصل إلى تفاهمات مع تركيا تحديدا. وزادت مخاوفها من إمكانية اتجاه موسكو إلى تكرار السياسة نفسها مع الولايات المتحدة بعد اتساع نطاق تدخلها في الصراع مع تولي إدارة ترامب مهامها في 20 يناير 2017.

سعت إيران عبر الضربات الصاروخية الأخيرة إلى تأكيد نفوذها على الأرض داخل سوريا وقدرتها على عرقلة أي ترتيبات سياسية وأمنية يمكن أن تصل إليها القوى الأخرى المعنية بالأزمة ولا تتوافق مع مصالحها، حتى لو كانت روسيا ذاتها.

وحاولت إيران توجيه رسالة بأن حرصها على التنسيق مع روسيا في سوريا لا يعني تطابق المصالح، في ظل تباين الأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها سوريا لدى كل منهما وبروز خلافات جوهرية في مواقف الدولتين تجاه التطورات التي يشهدها الصراع، على غرار الدور الذي من المفترض أن تقوم به الميليشيات الموالية لإيران على الأرض، والذي لا يبدو أنه يحظى بدعم كامل من جانب موسكو.

يمكن القول إن الضربات الصاروخية التي أطلقها الحرس الثوري على مدينة دير الزور السورية تمثل بداية لمرحلة جديدة من التصعيد في سوريا، لا سيما في ظل تطلع الكثير من القوى المعنية بتطورات الصراع السوري إلى رسم حدود جديدة للنفوذ على ضوء المعطيات التي تفرضها توازنات القوى على الأرض، فضلا عن تشابك الملفات الإقليمية المختلفة بشكل قد يؤدي إلى تداعيات على مسار الصراع في سوريا، على غرار الاتفاق النووي الذي سيواجه اختبارات صعبة في الفترة القادمة.