بدأت الحرب الأهلية مع بداية تحوّلنا من الطفولة إلى المراهقة
 

 ثلة من الأولاد لا همّ لها إلا اللعب وال " كدّوشة " والسيطرة في الأزقة... صاح لي أحد الأقارب: عليك أن تجهز نفسك اليوم لتساعدنا في نشر صوَر مرشّحنا الى الانتخابات النيابية " عادل الصباح "، فالصباح هو مرشح الشيوعيين في منطقة النبطية، وعلينا بلصق صوره على كلّ جدار وباب دار وعامود.
وفي نفس الوقت دعي أحد أصدقائي من قبل أقربائه الى المساهمة في نشر صور مرشّح حزب البعث "موسى شعيب ".
 في المساء إنضم كلٌّ منا إلى جهته. وبالرّغم من أننا لم نكن نفقه شيئاً في السياسة، إلا أنّ هذا الحدث جعل علاقتنا تتبلّل بالجفاء، رغم أننا تربيْنا سوياً، بل كنا نتشارك في " لحس البوظة المثلّجة " ونتقاسم حبة الفستق.
إخترت الحزب الشيوعي لأن أقربائي كانوا هناك، وكذلك إختار أعضاء الشلّة إنتماءاتهم السياسية وفقاً لما كان قد إختاره أقرباؤهم... وبدأت بعدها الحوارات الساخنة: إنظر الفرق بين شَعْر لينين وشَعْر صدام حسين، ليردّ الآخر بأنه يملك من الصواريخ النووية ما يدمر بغداد بلحظة... نحن نملك النفط، قال من إختار البعث... ونحن نملك القمح والبنات الجميلات، ردّ من اختار الحزب الشيوعي... العراق يملك التمور... ونحن نملك صواريخ توصلنا الى ما بعد القمر... كان هذا محور حديثنا على البيدر وفِي الأزقة. كنا نتفق خلال اللعب ونختلف عندما يلامس الموضوع موسكو أو بغداد... ومن دون أن نشعر سلّمنا أنفسنا لعائلات أخرى إسمها مؤسسات الأحزاب.
إنها العاطفة واختيار شخص سيكون المثل الأعلى في السياسة... سرعان ما توزعت شلّتنا بين الشيوعية والبعث، وبدأ مع ذلك الجفاء في العلاقة التي بدأت منذ " نعومة الأظافر ".
عائلاتنا الجديدة، الأحزاب، لم تتعامل مع الطفل الا كرقمٍ جديد. ربّما كانت قد تأثرت بالفكر النازي من ناحية صوابية تجنيد الأطفال: أخضعونا لدورة عسكرية على ضفة النهر، تحت شجرة جوز " أبو قاسم " عندما كنا في حوالي العاشرة من عمرنا، وبعدها بثلاث سنوات أرسلونا الى منطقة نيحا الجبلية لخوض دورة عسكرية عنيفة استمرت لأكثر من شهر... 
لا يمكن لأحدٍ أن ينتج من طفلٍ محارباً. طفل بالكاد نبت الشعر تحت إبطه وعلى عانته... 
في نيحا قلت لأحد رفاقي من القرية: رائحة اللحمة في العلبة ما زالت عالقة على كفّي، إنها رائحة لا أستطيع تحمّلها، ما العمل؟ ابتسم صديقي ليقول: لا يزيل هذه الرائحة سوى البوْل، عليك التبوّل على كفيّك... صدّقته، وبدأت بالتبول وفرك أصابعي بشدة... مكثت الرائحة على كفّي لعدة أيام، ولم يستطع البول أن يزيل منها أيّ أثر.
شعرنا جميعاً بموت رغبتنا الجنسية. قال أحدهم بأنهم يضعون في الطعام مادة اسمها " الكافور "، وبأنّ هذه المادة تستعمل في مطابخ كلّ الجيوش.
" جيوش "! هل نحن الأولاد صرنا عناصر جيش؟ نعم، جيشنا هو الجيش الشيوعي... أكمل رفيقي، ومن بعد انتهاء الدورة سيكون لنا شرف القتال ضد القوى الإنعزالية والصهيونية والإمبريالية الأميركية... وهل " عادل صباح " كان ضدّ هؤلاء؟ نعم، ولهذا أسقطته قوى السلطة الرجعية... لم أفهم شيئاً من كلّ هذا... لم أعرف من هم الانعزاليون، ومن هم الإمبرياليون... كلّ ما كنت أعرفه بأن أقاربي يجب أن يكونوا على حق.
حزبنا، وكلّ الأحزاب، إتّبعت الأسلوب النازي في تعبئة وتجنيد الأطفال. كلّ حزب يسرق الأطفال من هدوء حضن ذويهم ويأخذهم الى ضوضاء السلاح هو حزب لا يحترم الطفولة ولا الحياة... 
عندما أُخضِعت لدورة قيادة كشاف اتحاد الشباب الديمقراطي قرأت بين سطور المحاضرات والتدريبات بأن هدف إدخال الطفل الى المجموعة الكشفية هو تهيئته ليكون مقاتلاً في المستقبل... 
كلّ الأحزاب ظالمة. انتزاع الطفل من عالمه الى عالم قرقعة السلاح هو جريمة بحق الله والإنسانية... الطفل مكانه بين الألعاب وفِي المدرسة وليس بين السلاح وقرقعته ورائحة شحمه.
أعداد وأعداد... يموت الكثير ليحل مكانه الكثير... أطفال جاهزون للعبث وسط لعبة الكبار التي لا ترحم...
حزبنا كان أيضاً يواجه سعادة الطفولة، بل ويقتل الطفولة فينا. لا مبرّر لذلك مهما كان حجم المعركة، ولا مبرّر لأحد، وفِي كل العصور، أن يفعل ذلك...
طفل سيقاتل الانعزالية والصهيونية والامبريالية... صرنا نصنّف الناس بعدها كما نريد: هذا انعزالي وهذا صهيوني... صرنا نملك مختبرات قياس الوطنية والعمالة.
كنّا أطفالاً عندما مارسنا هذا السلوك المُضحك... إعتقدت بعدها بأنّه  ومن تجارب السابقين، أي نحن، سيستفيد اللاحقون.
كنتُ على مشارف الخمسين عندما لم يجد شخصٌ صبغ نفسه حديثاً بلون العداء لإسرائيل إلا أن يقول لي: أنتَ انعزالي!
أعادني ذلك الوصف إلى أيام الطفولة في جبل نيحا... تذكرت بأنّني كنتُ طفلاً حينها... أما القائل، فهو رجلٌ يتجاوزني عمراً وبنية، وبالطبع يملك سلاحاً جاهزاً... المراهقة في العمر وفِي السياسة يتشابهان الى حدّ كبير...
لا لتجنيد المراهقين!