«أمرك سيدنا»، كلمتان كانتا كفيلتان بتغيير الجوّ الذي كان سائداً ليلة العيد في بيت شربل، وقد دعا رفيقه حسن إليه لاستقبال السنة الجديدة مع عائلتيهما. حسن وشربل رفيقا الدرب منذ 25 سنة، أحدهما يخدم على الجبهة الحدودية، فيما يخدم الثاني على جبهةٍ من نوعٍ آخر في الداخل. الأوّل يلبس بزّته المرقّطة ويخرج، والثاني يلبس ثياباً عادية، فيعتقد كلّ مَن يراه أنه ذاهب إلى مكانٍ عادي، لكن لا فرق بين الإثنين، بل في الحالتين هناك خيطٌ واحد رفيع إسمُه «الموت».
 

إتصالٌ واحد، كان كفيلاً بإسكات الأولاد الذين كانوا يلعبون، وبتجفيف لمعة عينَي الزوجتين. فأمسك حسن بشربل وخرجا من البيت مودّعَين زوجتيهما وأولادهما. إلتفت أحدهما وقبّل ابنته الغافية على إحدى الكنبات، فيما قبّل الثاني ابنه الصغير واعداً إياه بالعودة. سأله ابنه «ليش رايح بابا؟ ولوين؟ اليوم عيد» فردّ الأب: «رايح على مطرح في كتار متلي، عايزينّي اليوم، رايح لتقدر إنت تكمّل هيدي السهرة وتكون مبسوط».

خرج شربل وحسن من الباب، فيما ركض الأولاد والزوجتان الى الشرفة مودّعين إياهما وقلوبهم بأيديهم. أوصل شربل حسن إلى مركزه وأكمل الى وجهته.

في عيد الأب، لا يعلم كثيرون كم تكون صعبةً على آباء أن يخرجوا من بيوتهم غير مدركين ما إذا كان أولادهم سيصبحون أيتاماً، وما إذا كانت نساؤهم ستترمّلن في عزّ شبابهن. في عيد الأب هناك أولادٌ لا يعلمون متى قد يُحرَمون من كلمة «بابا»، وهناك بيوت قد يُكسَر عامودها في لحظة «رصاصة».

وأكملا الطريق...

حتى هذه السطور، قد يعتقد البعض أنّ القصة سهلة، إلّا أنها أكبر من ذلك بكثير، فعلى غرار عائلتَي شربل وحسن، هناك عائلات ستعيّد من دون آباء، فهم خرجوا وقد لا يعودون وقد تكون لحظة وداعهم هي الأخيرة.

في هذه الليلة هناك 11 عائلة ستفقد كلٌّ منها واحداً من أبنائها، سيصبح عدد من الأولاد أيتاماً وبعض النساء أرامل... وسيصبح عيد الأب لهؤلاء عيد غصّة على مَن تركهم، رغم أنّ الشهيد لا يموت...

هي ليلة واحدة في عمر الزمن، إلّا أنها سنين في أعمار مَن لم تقع القرعة عليهم آنذاك، لحسن حظّ عائلاتهم ربما، أو لأنّ «زيتهم ما خلص»، أو على الأرجح لأنها حكمة الله التي مهما حاولوا أن يفهموها لن يستطيعوا... إنها آخر ليلة من عام 1999 وأوّل صباح من عام 2000، عندما ترك جنود الجيش بيوتهم في الليل، وذهبوا لخوض معارك الضنّية في ظلّ البرد والصقيع.

مَن بقوا أحياء...

يعود الزمن 17 عاماً الى الوراء في ذاكرة أحد هؤلاء العسكريين... جندي ترى في كلّ خطّ من خطوط وجهه قصصاً وحكايات، يضمّ ابنه الذي أصبح في العشرين من عمره، ويسترجعان معاً تلك الليلة... «كان عمري 3 سنوات وقتها، لم أكن أعلم ماذا يحدث إلّا أنني أذكر تماماً أنّ والدتي كانت مبتسمة فيما كان والدي يتحضّر للخروج، ساعدته في وضع ثيابه وتمشيط شعره، فحتى في ذهابه الى المعارك كان يحرص على الترتيب».

تدمع عيناه ويكمل «أذكر تماماً أنه ما أن خرج والدي من المنزل حتى أجهشت أمي بالبكاء بعدما كانت حريصة على عدم إظهار خوفها أمامه، وهو ما شرحته لي بعد سنوات عدة... كانت الساعة العاشرة عندما توقّف المنزل عن أيّ حركة أو همسة، ركعنا نحن الثلاثة وبدأنا بالصلاة، كنتُ أقول «يا رب ردّلي البابا» من دون أن أفهم ما يحدث من حولي». يصمت الشاب طويلاً مسترجِعاً الشريط في خياله، وهنا يبكي قائلاً بكلمات متقطعة: «رفيقي هيديك الليلة خسر والده، بس بيكفي فخر إنو خسرو شهيد».

إحدى الليالي الصعبة...

فيما كان الناس بثياب السهرة تلك الليلة، أشخاص آخرون كانوا ببزّاتهم المرقطة في الملّالات، يذهبون الى أقسى البلاد ليستطيع آخرون الإحتفال، وهو ما يحصل كل عام، حين يذهب العسكريون وبعضهم آباء، في رحلات تكون مفتوحة على كل الإحتمالات ومنها الموت.

في المركز، تجمّع العسكر وتحضّروا للإنطلاق، «القضية طارئة وعاجلة ولا وقت للتضييع، لكلّ منكم مهمّته المحددة، إنطلقوا».

الطريق الى عرسال طويلة جداً في الزمن، لكن من ناحية الذكريات فإنها تمرّ بلحظة، أفكارٌ وصوَر وحكايات، يقطعها بين الحين والآخر صوتُ «جنزير» ملّالة، أو رندحة عسكري لأغنية ما، أو صوت جهاز يذكّرهم بالإنتباه على الطريق.

كلما اقترب العسكر من هدفهم، تزدحم بهم الذكريات أكثر وأكثر، شريط الصور يمرّ كله ويمرّ بعض تلك التي اعتقدوا أنهم نسَوها، من يوم الولادة حتى اللحظة التي قد تكون الأخيرة. أحد لا يعلم كيف تصحو بهم، لكن هذا ما يحدث.

تكمل الطريق، فيتذكر كيف أنّ ابنه وُلد فيما كان في إحدى المعارك.. يتذكر كيف أنّ الصور كانت ملاذَه الوحيد إليه، «عيناه كعيني والدته اللتين اشتقتُ لهما، إرتسمت شامة على خده تماماً كتلك الموجودة على خدي... وها هو يكبر من دون أن أراه، الى أن كان اللقاء بعد أشهر بسبب الظروف»، مرض ابنه مراراً ولم يكن باستطاعته أن يراه، تذكّر عندما سأل الطبيب مرة «لمَ يمرض إبني كلما أترك المنزل؟» ليجيبه الطبيب آنذاك «أنت شخص يعود إليه يومين ويغرقه بالحنان ليختفي بعدها لأشهر، والولد لا يستطيع أن يعبّر فيتكفّل جسده بالتعبير من خلال المرض...». يضع يده في جيبه ليُخرج صورة أولاده، يقبّلها ويعيدها من حيث أخرجها... هكذا كانت القصة وما زالت وهكذا ستبقى.

وتصبح الذكرياتُ أقوى

عندما يصل العسكر إلى الجبهة، وعلى صوت المدافع والقذائف والرصاص، تصبح الذكريات أقوى، ويسرع الشريط في المرور أمام أعينهم، فهذه الطريقة الوحيدة للتغلّب على الخوف ومحاربته، أن يفكروا بكيفية العودة الى عائلاتهم سالمين.

لكن في مكان ما، على الشريط أن يتوقف ليستطيع الجندي التركيز والرؤية، وهنا يصبح همّه الوحيد رفيقه الذي بقربه، وينسى أن أشخاصاً من لحمه ودمه ينتظرونه في مكان ما، مكان بعيد.

في خياله، يسمع أصوات أجراس وصيحات ناس فرحين، فتردّه أصواتُ الرصاص الى الواقع، مترافقة مع الأنفاس الأخيرة لرفاقٍ عاشوا مثله. يكمل طريقه، يبدأ الجدّ ولا يعود هناك مجال للعودة فـ«إما قاتل أو مقتول»، في هذه اللحظة تُمّحى الذكريات ويصبح كلّ شيء في رأسه أبيض، وحتى أنه يصبح مشلولاً لا يستطيع الشعور بنفسه.

يقوى صوت رعد القذائف والرصاص، ويسمع صوت ارتطام قريب منه، إنه رفيقه مغطى بالدماء. في هذه اللحظة يفلت رشاشه، ينسى أنّ الأعداء بوجهه، وكلّ ما يفكر به هو مشاعر أولاده وزوجته الذين ينتظرونه، «ماذا لو أنّ القرعة وقعت عليّ، ماذا كان سيشعر أولادي؟»، يكبر قلبه لأنّ بعض الناس سيتذكرون رفيقه شهيداً، ويذكر أنه أوصاه مراراً أن يلفّوا جثته بالعلم اللبناني، وأن يضع أهلُه العلمَ في البيت ويفرحوا فيه كلما سمعوا النشيد الوطني أو شاهدوا عسكريّاً بالبزة على الطريق، والأهم يذكر أن يوصي إبن رفيقه بألّا يخاف الشهادة وأن يدخل السلك العسكري كما فعل والده... يغمض رفيقه عينيه ويتركه ليتخبّط وحده ضد الأعداء، تنزل الدموع من عينيه، إلّا أنّ عليه إكمال المعركة...

في طريق العودة

يعتقد، مخطئاً، بأنه في طريق العودة لن يزدحم رأسه بالأفكار فالخطر انتهى، إلّا أنّ تفكيره يخونه، وهذه المرة لا تغيب عنه صورةُ لقائه بعائلته... يعود الى المركز وينزع البزّة عن جسده، يلبس ثياباً عادية ويتّجه الى المنزل، وما أن يدخله حتى يرى الجميع غافياً، يقبّل كلّاً منهم، ويعود الى أفكاره.

يستذكر ما حصل معه منذ لحظة الإنطلاق حتى العودة، وفكرة واحدة لا تفارقه «مش دايماً بتسلم الجرّة»، لا يغيب أولاد رفيقه الشهيد وزوجته عن باله، كيف سيكون صباحهم عندما يعلمون أنهم لن يندهوا «بابا» مجدداً، ماذا سيشعرون عندما يعلمون أنهم لن يسمعوا صوته مجدداً، أنه لن يوصلهم الى المدرسة، لن يجلسوا معه إلى مائدة الطعام، لن يراهم يكبرون، لن يكون في حفلات تخرّجهم، لن يرافق ابنته يوم زفافها الى مذبح الكنيسة، وغيرها من الأفكار التي جعلت هذا الجندي الذي عاد سالماً من المعركة يغرق في بحرٍ من الدموع، وكأنه ليس ذاك الجبار الذي أرهب الأعداء وإنما طفل صغير، في قلبه غصّة على رفيق الدرب.

إذاً، هؤلاء هم العسكر، إن كانوا على الحدود أو في الداخل، أكانوا بالبزّة المرقّطة أو بالثياب المدنية، هؤلاء هم العسكر الذين ترك بعضهم غصّة في قلوب عائلاتهم وأبنائهم في عيد الأب، هؤلاء هم العسكر الذين داسوا على ملذات الدنيا ليتبعوا قسَم اليمين بالحفاظ على أرض بمَن عليها ومَن فيها، ومؤمنين أنه باستشهادهم حياة خالدة... «لأنّ الشهيد يعيش يوم مماته».