حتى أعنف منتقدي الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ينبغي أن يُقدروه على معاملته لوزير خارجية ريتشارد نيكسون المتبجح هنري كيسنجر. هكذا علق موقع The Intercept الأميركي على طريقة معاملة الأسد لهنري كيسنجر أحد أشهر الدبلوماسيين في تاريخ أميركا إن لم يكن أشهرهم، وهي التفاصيل التي كشفتها مستشارة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، بثينة شعبان، في الكتاب الذي ألفته بعنوان حافة الهاوية: حافظ الأسد وهنري كيسنجر وإعادة تشكيل الشرق الأوسط
 

وفقاً لشعبان "فعندما توجه كيسنجر إلى دمشق مساء 26 شباط عام 1974، بعد حرب 1973 جعله الأسد ينتظر ساعات بينما كان يتناول العشاء مع الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوتشيسكو. وفقط، بعد منتصف الليل، استُقبل المسؤول الأميركي استقبالاً رسمياً. وخلال الاجتماع، جلس كيسنجر أمام لوحة كبيرة لمعركة حطين، حيث تمكن السلطان صلاح الدين من هزيمة الصليبيين وتقدم لتحرير القدس، وحسب ما قالته بثينة شعبان، بعد ذلك "تحسن الوضع".

هل كان الأمر مقصوداً؟

يقول تقرير The Intercept: "لقد استضاف الأسد حاشية كيسنجر في قصر الضيافة، وهو أحد الأماكن المتواضعة التي أعلن منها عدو أميركا، جمال عبد الناصر، تأسيس الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، كاتحاد يتكون من سوريا ومصر. وبعد 30 دقيقة من دخوله إلى جناحه للنوم، استيقظ كيسنجر على آذان صلاة الفجر من مسجد في الجوار". وتقول شعبان في كتابها إن أي هجومٍ على احترام كيسنجر لنفسه –كتأخير وقت العشاء، ولوحة صلاح الدين، وارتباط الضيافة بالقومية العربية، والاستيقاظ مبكراً– لم يكن مصادفة.

وتطرح بثينة شعبان، أستاذة الأدب الإنكليزي والتي عملت مستشارة إعلامية وسياسية لبشار الأسد، لأول مرة، المنظور السوري المتعلق بمفاوضات الأسد مع كيسنجر. وهي المفاوضات التي عملت على تأطير العلاقات بين سوريا وإسرائيل وكذلك بين سوريا والولايات المتحدة ما يقرب من 40 عاماً. وكتب كيسنجر وبعض الأميركيين والإسرائيليين حول هذه المحادثات، ولكن هذا يعتبر أول تقرير سوري يتحدث عن هذه المسألة.

وتحظى شعبان بسهولة الحصول على ملفات الرئاسة السورية إلى جانب "محاضر جميع اللقاءات والمراسلات التي تبادلاها، سواء عبر القنوات الدبلوماسية من خلال السفير الأميركي في دمشق أو عن طريق القنوات الدبلوماسية الأخرى". وتحتوي هذه الملفات على نسخ أصلية من تسجيلات جرى عرضها بالكامل تتعلق بالمشاركين في جميع زيارات كيسنجر الـ28 إلى دمشق في 1973 و1974، على غرار أجهزة التسجيل المخفية بالبيت الأبيض في أثناء فترة نيكسون.

تصحيح للأسطورة

ولا يزعم الكتاب أن هذه هي القصة الكاملة. ولكن هذه التسجيلات تطرح تصحيحاً للأسطورة التي روجها كيسنجر عن نفسه بأنه مترنيخ العصر (الأمير كليمنس فينزل مترنيخ سياسي ورجل دولة نمساوي ومن أهم شخصيات القرن التاسع عشر. يُنسب إليه وضع قواعد العمل السياسي التي سارت عليها القوى الكبرى في أوروبا طوال الـ40 عاماً التي أعقبت هزيمة نابليون بونابرت). يقول الموقع الأميركي: "أراد كيسنجر للجزء الثاني من مذكراته، (سنوات الاضطراب)، أن يظهر كأنه الكلمة الفصل في مفاوضاته مع الأسد. ولحسن الحظ أنها لم تكن كذلك.

ولفت الموقع إلى أن كتاب إدوارد شيهان الذي وصفه بالرائع بعنوان "العرب والإسرائيليون وكيسنجر" والمنشور في بيروت حاز غضب أبطاله (الشخصيات التي تناولها الكتاب)، على الرغم من أنه كُتب بمساعدة كيسنجر. وصرح كيسنجر قائلاً: "صُعِقت عندما رأيت بعض محادثاتي مع زعماء الدول الأخرى مطبوعة".

كيسنجر يعرقل المفاوضات

وأشار تقرير The Intercept إلى أن كيسنجر دخل متأخراً إلى دبلوماسية الشرق الأوسط. ففي أثناء شغله منصب مستشار الأمن القومي لنيكسون في الفترة من 1969 حتى 1973، عرقل المفاوضات التي كانت تهدف إلى إيجاد حلٍ للصراع العربي-الإسرائيلي. وحين كان يطمح إلى شغل منصب وليام روجرز، وزير الخارجية في إدارة الرئيس الأميركي نيكسون، أحبط المحاولات كافة التي كانت تهدف إلى تجاوز عملية وقف إطلاق النار الذي قبلته كل من إسرائيل والأردن ومصر وسوريا وفقاً لخطة روجرز التي كانت تهدف إلى إنهاء "حرب الاستنزاف" التي كانت ستؤدي إلى إفلاس إسرائيل.

وأخذت المنطقة في دخول حيز التغيير في أيلول عام 1970، في الشهر الذي قام خلاله الملك حسين بسحق منظمة التحرير الفلسطينية بالأردن وتوفي خلاله عبد الناصر. وتولى نائبه، أنور السادات، خلافته في المنصب. وبعد مضي شهرين، تمكن الانقلاب غير الدموي من وضع وزير الدفاع السوري، حافظ الأسد، في منصب الرئيس. وفتحت الدبلوماسية أبوابها، ولكن كيسنجر سريعاً ما أوصدها.

لماذا تجاهل السادات؟

تواصل السادات مع نيكسون وكيسنجر من خلال العديد من المبعوثين لعرض السلام بالمنطقة. وتجاهله كيسنجر مُعتقداً أن إسرائيل يمكنها الدفاع عن شبه جزيرة سيناء من وراء خط بارليف "المنيع" على الضفة الشرقية من قناة السويس. ومرة تلو أخرى، هدد السادات بشن حرب إذا أخفق الأميركيون في زحزحة الإسرائيليين عن موقفهم. واعتقد كيسنجر أن السادات يخادع ورفض كلامه. وعندما طرد السادات جميع المستشارين العسكريين التابعين للاتحاد السوفييتي البالغ عددهم 15000 من مصر عام 1972، رفض كيسنجر الاعتراف بالتحرك الاستراتيجي المصري.

فعلى الرغم من تحذيرات الملك حسين، ملك الأردن، وكذلك العديد من الوكالات الاستخباراتية، أخذ الجيشان المصري والسوري إسرائيل على حين غِرة عندما هاجم الطرفان في السادس من تشرين الأول عام 1973. وقلص المصريون حجم الرمال المتراكمة في خط بارليف بواسطة مضخات المياه وشيدوا الجسور العائمة وعبروا إلى سيناء. وتدفقت الدبابات وقوات المشاة السورية إلى مرتفعات الجولان المحتلة. وحافظت إسرائيل على بعض مكاسب 1967 فقط بسبب الإمدادات الأميركية الطارئة، واستدعاء جنود الاحتياط، والتسلل إلى الجانب الغربي من القناة.

وتدخل كيسنجر الذي حل بديلاً لروجرز قبل أسبوعين من اندلاع الحرب؛ للتخلص من الفوضى التي يعد مسؤولاً عنها إلى حد كبير. وجاء إلى الشرق الأوسط لهدف مزدوج: لاستبعاد السوفييت من مفاوضات السلام ولحماية إسرائيل.

وألقى السادات بنفسه بين ذراعي كيسنجر ووافق على دبلوماسيته وعلى أي وجهة تقوده إليها. وكان الأسد صلباً إلى حد كبير. ولعب كيسنجر دوراً ريادياً فيما يُعرف بـ"الدبلوماسية المكوكية"؛ إذ كان يحمل المراسلات بين الإسرائيليين وخصومهم العرب في مصر ودمشق وفي الوقت ذاته يملي مقترحاته.

الأسد يفاجئ كسينجر في أول اجتماع بينهما

واستمر أول اجتماع لكيسنجر مع الأسد في 15 كانون الأول 1973 ست ساعات ونصف الساعة. وأدهش الأسد ضيفه، أول وزير خارجية أميركي يأتي إلى بلاده منذ عام 1953، بموافقته على استبعاد الرعاة السوفييت من المحادثات نتيجة للفكرة القائلة بأن الولايات المتحدة وحدها يمكن أن تؤثر على إسرائيل.

وفاجأ كيسنجر الأسد بادعاء أن العقبة الرئيسة أمامه تأتي من هؤلاء الذين يتحكمون "في الموارد المالية ووسائل الاتصال" بالولايات المتحدة، ولم يكن التلميح شيفرة ماكرة حول اللوبي الصهيوني، الذي لم يكن قد تمكن بعدُ من تحقيق التأثير الذي امتلكه في السنوات الأخيرة. وتحتوي النسخ السورية على العديد من ملاحظات كيسنجر الاستخفافية بخصوص اللوبي اليهودي، ولكن، تقول شعبان، "إن السجل الأميركي لا يذكر إشارته إلى (الموارد المالية) أو (وسائل الاتصال).

وتفاوض كيسنجر على فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل خلال 8 أيام من كانون ثاني 1974. وكانت المفاوضات السورية–الإسرائيلية أكثر صعوبة من المصرية-الإسرائيلية واستغرقت وقتاً أطول".

 

 

(The Intercept- هافغتون بوست)