الخليج هو الخليج العربي بالنسبة إلى الدول العربية، وهو الخليج الفارسي بالنسبة إلى إيران، لكن أيضاً الأمم المتحدة، وهو كذلك التسمية التي يستخدمها قادة الغرب، وتستخدمها ديبلوماسيتهم، كلما جرى الحديث عن الخليج.
 

يستفز عرب الخليج كلما ذكرت لهم تسمية "الخليج الفارسي"، ويستفز الإيرانيون كلما سمعوا بـ"الخليج العربي". يرفض كل طرف التسامح مع التسمية التي يعتمدها الآخر، ويبدو "علم الجغرافيا" منحازاً لطرف دون آخر، فهل كانت هذه هي الحال دوماً؟

بحر فارس: شعبة من بحر الهند الاعظم

الطاغي عند جغرافيي الحضارة الإسلاميّة من الذين وضعوا أعمالهم باللغة العربية هو تسمية الخليج "بحر فارس"، وقد أتبعوا في ذلك التقليد الجغرافي اليوناني، جرياً على منوال إسطرابون وبطليموس، وهو تقليد يستند بدوره إلى تصوّر كروي للأرض يجد مبدأه في جغرافية الفيلسوف أرسطوطاليس.

يقوم هذا التصوّر للأرض، على ما يوضحه الشريف الإدريسي في "نزهة المشتاق" (منتصف القرن الثاني عشر الميلادي) على أنّها أشبه "ببيضة مغرقة في الماء، والماء في طست، فكذلك الأرض نصفها مغرق في البحر، والبحر يحيط به الهواء، والهواء دافع لهما أو جاذب".
بموجب هذا التصوّر إذاً هناك بحر محيط يحيط باليابسة من جميع النواحي، وتتشعب منه مجموعة بحار - خلجان، وتتشعب خلجان داخل هذه الخلجان.

وهكذا نجد ياقوت الحموي في "معجم البلدان" يتحدّث عن "الخلجان المنخلجة"، ومنها بحر فارس، الذي هو "شعبة من بحر الهند الأعظم"، أي المحيط الهندي في التعريف المعتمد حالياً، الذي يستمد ماءه، بالنسبة إلى ياقوت، من البحر المحيط الأكبر، الأوقيانوس.

الإدريسي وياقوت

تقسيم البحار هو هكذا عند ياقوت الحموي. هناك البحر المحيط الأعظم، أوقيانوس، الذي تستمد منه سائر البحور ما عدا بحر الخزر (قزوين) ماءها، وله "شعبتان"، واحدة شرقية، وهي بحر الهند وثانية غربية وهي بحر الشام (أي البحر الأبيض المتوسط)،

ويتشعب كل من هذين البحرين إلى مجموعة خلجان، و"يتشعّب من البحر الهندي خلجان كثيرة إلا أن أكبرها وأعظمها بحر فارس (الخليج) والقلزم (البحر الأحمر)".

أما بالنسبة إلى الشريف الإدريسي في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" الذي كتبه من أجل روجر الثاني ملك صقلية، ويعرف باللاتينية بـ"التابولا روجريينا"، فالمحيط الهندي يمكن تسميته سواء بسواء بحر الهند أو بحر الصين، و"يتشعب من هذا البحر الصيني الخليج الأخضر وهو بحر فارس". لافتة هنا تسمية "الخليج الأخضر" التي تحاكي التسميات اللونية للبحار (الأبيض والأسود والأحمر والأصفر).

بحر فارس الممتد من الصين

بيد أنّه إذا ما عدنا إلى القرن العاشر الميلادي، نجد جغرافياً عربياً آخر، هو ابن حوقل النصيبي، يستخدم مصطلح "بحر فارس" بشكل أوسع بكثير. في كتابه "صورة الأرض" يوضح ابن حوقل أنه قرّر تقديم صورة جغرافية للأرض تكون فيه مدينة مكة هي المركز "واسطة الأقاليم"، وفي هذا مسعى للخروج من تصورات أخرى كانت لا تزال متأثرة إمّا بمركزية بلاد فارس (ايران شهر). لكن بحر فارس عند ابن حوقل يمتد "من الصين إلى القلزم"، وهو أكبر من البحر الأبيض المتوسط: "أما البحار فأشهرها اثنان، وأعظمها بحر فارس ثم بحر الروم، وهما خليجان متقابلان يأخذان من البحر المحيط، وأفسحهما طولاً وعرضاً بحر فارس".

ليس هناك مصطلح "خليج عربي" عند أيّ من الجغرافيين العرب. المصطلح الأكثر استخداماً "بحر فارس"، لكنه لم يستخدم وحده، إذا استخدم أيضاً تعبير "بحر البصرة"، كما أنّه لم يستخدم ليعني الخليج فقط، كما نرى عند ابن حوقل.
ولم يكن هذا الاستخدام للاصطلاح ببعيد عن الحديث النبوي "في بحر فارس ما هو في بحر الروم ما هو".

يبقى التنبيه على شيء أساسي: لم يشعر الجغرافيون العرب بالحاجة إلى تثبيت مصطلحات ثابتة ونهائية للبحار والخلجان، فالبحر الأبيض المتوسط عند ياقوت الحموي، هو بحر الشام، لكنه أيضاً بحر المغرب، وبحر الروم، بحسب الساحل الذي نسمي البحر قبالته ابتداءً منه.

بحر مسندم، بحر القطيف، بحر البصرة

رسم الجغرافيون العرب، منذ الإصطخري وابن حوقل، مروراً بالإدريسي وياقوت الحموي، خارطاتهم انطلاقاً من خارطة دائرية للأرض كما لو كانت قرصاً، يحيط بيابسته المحيط الأعظم (أوقيانوس) من كل جانب. هذه الخرائط لا يمكن فهمها اليوم إلا بقلبها، ذلك أنها كانت تضع شمال العالم تحت وجنوبه فوق.

رغم امتياز هذه النظرة بإدراك كروية الأرض، إلا أنّها حكمت على علم الخرائط بحدود لا يمكن أن يتجاوزها.

المفارقة التي تبدو مهملة اليوم، هي أنّ علم الخرائط تقدّم في أوروبا الغربية، ليس انطلاقاً من الاعتقاد بكروية الأرض، بل العكس، أي انطلاقاً من الاعتقاد المغلوط بأنها مسطّحة. الاعتقاد الخاطىء بتسطيحها سمح برسم خرائط غير مضطرة على إبراز مركز للعالم، مثلما كانت الحال مع الجغرافيين العرب الذين وضعوا مكّة في مركز تصوّرهم الكرويّ، أو مع الجغرافيين الأوروبيين في العصر الوسيط الذين وضعوا بيت المقدس.

التصوّر المسطّح للأرض سمح برسم خرائط على أساس خطوط الطول وخطوط العرض. وهكذا صار بالإمكان تحسين هذه الخرائط كلّما تتطوّرت حركة الاكتشافات البحرية، وتطوير حركة الاكتشافات البحرية بنتيجة تطوّر هذه الخرائط.

كلّ نقطة أخذت تتحول إلى ميناء متصل بالتجارة الأوروبية صارت تتحول إلى نقطة ارتكاز جديدة لتحسين هذه الخرائط. عندما عاد الجغرافيون الأوروبيون و"صالحوا" خرائط الطول والعرض مع كروية الأرض في وقت لاحق، كانت الهيمنة الأوروبية قد أخذت تفرض نفسها على الكوكب.
في هذا السياق، أعاد الجغرافيون الأوروبيون منذ القرن السادس عشر استخدام وصف "الفارسي" للخليج، لكنهم لم يحصروا التسمية به، بل كانت التسمية تتغير بتغيّر نقطة الاهتمام الارتكازية في منطقة الخليج بالنسبة إلى تجارتهم، وهكذا باستعراض الخرائط البرتغالية والأوروبية في بداية العصور الحديثة، نلمح تعدد الأسماء المعطاة للخليج: الخليج أو البحر الفارسي، لكن أيضاً بحر أو خليج البصرة، بحر القطيف، بحر مسندم.

الخليج العثماني

أما الجغرافيون العثمانيون، فاللافت فيهم أنّهم، بخلاف الجغرافيين باللغة العربية في العصور الوسيطة، أخذوا ينفرون من تسمية الخليج بالفارسي، رغم أهمية اللغة الفارسية في البلاط والثقافة العثمانيتين، ويحبذون تسمية "بحر البصرة"، كما في أول أطلس عثماني صدر مطلع القرن التاسع عشر.

عمل العثمانيون بجهد وطيلة قرون على فرض نفوذهم في منطقة الخليج بوجه البرتغاليين والفرس ثم الإنكليز. فالقبطان العثماني الشهير بيري ريس، كان راسم خرائط مدهشاً في القرن السادس عشر، لكنه انتزع مجده العسكري من مواجهاته مع البرتغاليين في البصرة ومسقط وقطر.
لم يفكّر العثمانيون بتسميته "الخليج العثماني" مع أنّ هذه التسمية التي يعنون بها فردريك انسكومب كتابه عن نشأة الكيانات الخليجية الحديثة، تعبّر كثيراً عن الأهمية الإستراتيجية التي أولتها الدولة العليّة لمنطقة الخليج.
هذه الأهمية استمرت من زمن بيري ريس إلى لحظة توقيع المعاهدة الأنغلو - عثمانية عام 1913 التي أقرّت للدولة العثمانية الإحساء والقطيف، ومنحت البريطانيين الحماية على الكويت، والسيطرة على البحرين.
وسجّل وقتها مسعى المفاوض العثماني حتى اللحظة الأخيرة لانتزاع شبه جزيرة قطر، من دون أن ينجح في ذلك، علماً أن هذه المعاهدة لم تجد طريقها إلى التصديق، لأنّ الرياح سارت باتجاه التصادم بين العثمانيين والإنكليز مع الحرب العالمية الأولى.
المفارقة هنا أن الدولة العثمانية في فترة ضعفها كانت أكثر حرصاً على أن تكون سيطرتها على جزء من منطقة الخليج فعلية ومباشرة، وذات طابع "سيادي".
الخليج العربي

بعد تحلّل الدولة العثمانية استمرّ العرب في تسمية الخليج بـ"الفارسي" لعقود من الزمن دون مشاكل. حتى وهو ينشد الوحدة العربية، كان جمال عبد الناصر يحدّد كيان الوطن العربي المطلوب توحيده بأنه من "الخليج الفارسي إلى البحر الأطلسي"، هذا في وقت لوحظت فيه منذ الثلاثينيات ممانعة عراقية بازاء التسمية "الفارسية" للخليج، وإيثار تسمية "خليج البصرة".
الخليج الإسلامي... الخليج العربي

اللافت هنا أنّ اشكالية "التسمية" لم تتحول إلى مشكلة سياسية إلا في نهايات الستينيات من القرن الماضي. هزيمة العرب في حرب 1967 أقفلت قناة السويس. بعد إقفال القناة وجدت بريطانيا أن الأوفر لها هو الانسحاب من مستعمراتها في منطقة الخليج.

بالتوازي، شعرت إيران بقيادة الشاه محمد رضا بهلوي بأنّها ستستفيد من توثيق تحالفها مع إسرائيل المنتصرة في الحرب، وأنها ستهيمن على بلدان الخليج العربية الصغيرة. فشدّد الشاه على فارسية الخليج، وصار هناك عيد وطني للخليج الفارسي، استمرّ بعد الثورة.
في بداية الثورة الإيرانية طرح مشروع تسمية وفاقية، "الخليج الإسلامي"، وهو ما سحب نهائياً من التداول مع الحرب العراقية الإيرانية، إذ عاد العرب إلى تسمية عمدة مدرسة امستردام في القرن السابع عشر، هونديوس، "الخليج العربي".
هذا في وقت ينحاز فيه معجم الأمم المتحدة، وعلم الجغرافيا في كبرى جامعات الغرب، لتسمية بطليموس، التي استعادها بشكل غير حصري الجغرافيون العرب: "الخليج الفارسي".
ولا يظهر أنّ هناك في كل هذا النزاع على تسمية الخليج من يبحث عن اسم "توافقي" محايد، هذا الذي نجده عند الادريسي من خلال تسمية: "الخليج الأخضر".