يطالبنا القرآن الكريم بأربع طرق للتعاطي معه، وهي القراءة والتلاوة والترتيل والتدبر.
 

والقراءة مرحلة أولية من مراحل الفهم، ورد الأمر بها في الآية 20 من سورة المزمل: "فاقرؤوا ما تيسر من القرآن". أما التلاوة، فهي حسن القراءة وهي ممارسة تأتي بعد مرحلة القراءة، فهي حسن القراءة والاتباع بعمل يتلو تلك القراءة، أي أنها مرحلة متقدمة على القراءة، وردت في الآية 121 من سورة البقرة: "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته، أولئك يؤمنون به".

بينما يأتي الترتيل كمرتبة متقدمة من مراتب التلاوة، إذ يُعرّف بأنه التلاوة من غير عجلة للوقوف على معاني القرآن، كما يشتمل على تجويد القراءة وحسن مخارج الحروف، وورد الأمر بالترتيل في الآية 4 من سورة المزمل: "ورتل القرآن ترتيلا".

إلا أنّ أعلى مرتبة من مراتب التعامل مع القرآن هي ما يُعرف بالتدبر، وقد ورد في آيةٍ توضح الوظيفة الأساسية للقرآن، في الآية 29 من سورة ص: "كتابٌ أنزلناه إليك مباركاً ليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب"، أي ليتفكروا فيها و ليتأملوها وليبحثوا عن معانيها.

ولا يقف التدبر عند ظاهر النص كالمراحل السابقة، بل يحاول الوصول إلى ما وراء النص. كما يحض على التدبر في الآية 24 من سورة محمد: "أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها".

التدبير والتحفيظ

على عكس الطرق الأربعة، لم يرد الأمر بالتحفيظ في القرآن، ولا مرة واحدة. بل على العكس من ذلك، قال المفسرون بأن الله تكفّل بحفظ كتابه في الآية 9 من سورة الحجر: "إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون".

فلماذا تركّز المدارس والمؤسسات والهيئات والمعاهد والبرامج المعاصرة على تحفيظ القرآن وصرف الوقت والجهد والمال على ذلك، بدلاً من صرف تلك الطاقات على تدبّر معانيه؟

كان حفظ القرآن الكريم في العهد النبوي ضرورة تاريخية من أجل تناقل النص، خاصة أن عرب الجزيرة كانوا قلّما يقرؤون ويكتبون، إذ كان تركيزهم على السماع والحفظ، ولذلك اشتهروا بذاكرة قوية في حفظ الأشعار والأخبار والأحاديث والقرآن.

ثم ظهرت الحاجة للتدوين عند توسع الرقعة الجغرافية للدولة، ودخول شعوب مختلفة تحت حكمها واعتناقهم الإسلام، وتطور الثقافة الإسلامية في مناح عديدة. ولذلك تم تدوين القرآن وحُفظ بالتالي من الضياع والاندثار، وتبع ذلك نهضة في التصنيف والتجميع وتنظيم المعرفة.

واستمرت ثقافة الحفظ الشفهي للقرآن الكريم في القرون الوسطى لثلاثة أسباب رئيسة وهي تدريس اللغة العربية للعامة وللأدباء والعاملين في مجال الثقافة، ودراسة الإسلام للمختصين من الفقهاء والقضاة والأئمة وكل من يدور عمله في الفلك الديني والقانوني.

كان الحفظ ضرورة للمختص لأن واجبه كان تقديم الفتوى أو القرار القانوني بناء على ما لديه من معرفة في لحظة الحاجة إليها، ولم يكن لمعظمهم ترف القدرة على حمل القرآن في كل مكان والبحث فيه، خاصة مع وزنه الثقيل في وقتها.

أما السبب الثالث فهو غلاء نسخ الكتب في القرون الوسطى، فلم يكن بمقدور كل الناس القراءة، ولم يكن بمقدور كل قارىء شراء نسخة كاملة من القرآن. وقد كُرّم حافظ القرآن بلقب "حافظ" كما نقرأ في سير وتراجم العلماء في العصور القديمة.

لماذا نحفظ في عصر الطباعة؟

ومع حلول عصر الطباعة والإعلام الرقمي، انتشرت القراءة والكتابة وأصبح القرآن أكثر الكتب انتشاراً على وجه المعمورة، يُقدّم مجاناً بأوضح وأجمل خط في كل مكان وبكل الأحجام، فانتفت كلياً الحاجة التاريخية لحفظه، بل إنه أصبح متوفراً لكل إنسان على الإنترنت والإذاعة وعلى جوّاله المحمول في جيبه.

 

وبالإضافة إلى ذلك، ليس هنالك ضرورة دينية لحفظه، إلا آيات قليلة لتلاوتها أثناء الصلاة، وهنا يكفي حفظ بعض السور القصيرة لا أكثر.

فأية خدمة يقدمها التحفيظ للأفراد وللمجتمع، إذا استثنينا أهل الاختصاص بالأدب والفقه، طالما أن القرآن أو أي كتاب آخر أصبح موجوداً بضغطة زر على جهاز كل فرد منا؟

ينبغي الانتباه إلى أن أولويات العصر قد تغيرت أيضاً، وأصبحت أهمية الفرد تكمن بصفته "مفكراً" لا "حافظاً"، أي منتجاً للمعرفة لا مكتفيا بترديدها، وهذا ما نحتاجه الآن أكثر من أي وقت مضى للتفكير والاكتشاف أو كما داعانا القرآن: للتدبر.

فالحفظ ما هو إلا اختبار ذاكرة، وحفظ الكتاب من دون فهمه والعمل به هو كعدم العلم به.

بل لعل تحفيظ الأطفال والمراهقين بعض الفقرات القرآنية أو الإنجيلية أو التوراتية، من دون تدبر معناها الحقيقي في سياقها التاريخي، قد يكون معارضاً لهدف الرسالة نفسها.

وهذا ما نراه عند نسبة ليست بقليلة، ممن يحفظون بلا فهم عميق، ويسعون لفرض تفسيرٍ واحد للكتاب، مسلوخٍ عن سياقه النصي والتاريخي، ومن دون وعي بمقاصد النصوص وتعدد التفاسير وتنوع الأحكام حسب الحالات.

هذا التوجه يؤدي إلى مخاطر جمة، نلاحظ تأثيرها على حياتنا وعلى رؤى وتوجهات الأحزاب الدينية، وأيضاً على قوانين الدول العربية والإسلامية في شتى المجالات.

فإذا استثنينا أصحاب التأمل والإلهام الذاتي، لا يوجد غالباً قيمة مضافة في فهم المعنى عبر إعادة قراءة النص أو ترديده غيباً من دون الإضاءة عليه من جوانب متعددة، والاطلاع على تجربة أشخاص آخرين في فهم النص وتطبيقه.

وهذا ما يستدعي قراءة وتدارس كتب التفاسير القديمة والمعاصرة أو الدراسات القرآنية عامة التي تزخر بها الحضارة العربية والإسلامية. 

كما يتيح تدارس التفاسير الاطلاع على بعض الأمور التي لا يكتسبها الشخص عند التحفيظ، إذ أنه سيدرك بشكل أعمق تاريخية بعض الآيات وأسباب نزولها في ظروف محددة وأحوال مخصوصة المكان والزمان.

في دراسة التفاسير بدلاً من الحفظ، وهي متوفرة على صفحات الإنترنت، سيكتسب القارىء ثقافة أدبية وعلمية وتاريخية وجغرافية، خاصة بفضل ما تنقله التفاسير من ظروف محيطة سواء بالنص القرآني أو بمفسر النص والتراكمات المعرفية التي سبقته بما ينقله من آراء وأفكار.
ومن محاسن الاطلاع على التفاسير الكثيرة ترسيخ مبدأ التسامح الفكري لدى القارىء، إذ أنه سيتعلم أن بعض الآيات تحتمل تأويلات وأوجه متعددة تسوغ الاختلاف في الفهم، فيعذر المجتهدين في اجتهادهم.
إن كل تلك الفضائل لتدارس التفاسير ستجعل الدارس متدبراً فعلاً للقرآن الكريم، حسب الإرشادات الإلهية، وأكثر فاعلية ونفعاً للثقافة وللمجتمع.
فاستبدال التحفيظ بتدارس التفاسير سينتج مفكرين ومثقفين، متسامحين واعين بتراثهم الغني في شتى المجالات، ميالين إلى النقد والتجديد، قادرين على التمييز واختيار الأفضل في فهم الأمور.
وليكن مقياسُ صرف الجوائز والأموال على مدى سعي الفرد أو المتسابق لتعلم معانيه وتفاسيره القديمة والحديثة والمحتملة وكيفية نقد تفاسيره أيضاً للوصول إلى المعنى الأفضل، وليكن حفظه زيادة ثانوية، تحدث فردياً وتلقائياً من كثرة تدبره وتدارس تفاسيره.