هناك ثلاثة مشاهد توضّح بما لا مزيد عليه استنزافات المخاض العربي الكبير وتحدياته للقيادات العربية وللمثقفين العرب. المشهد الأولُ البارزُ الآن الأزمة التي أحدثها الموقف القطري من الأمن الخليجي والعربي. والمشهد الثاني: الأحداث الإرهابية في لندن وطهران. والمشهد الثالث ما يجري في جنوب سوريا وفي المثلث الحدودي بين العراق والأردن وسوريا.
في المشهد الأول هناك تحدٍ كبير لتضامن العرب وقدرتهم على الخروج من المأزق المستمر منذ ستة أعوام. فقد شاع الاضطرابُ في أربع بلدانٍ عربية هي سوريا والعراق وليبيا واليمن، ويُرادُ إلحاق مصر أكبر الدول العربية بهذا المستنقع المضطرب. وبدلاً من أن تكون دروس السنوات الست دافعاً لرؤيةٍ جديدةٍ وسلوك جديد؛ ما تزال دولٌ عربيةٌ، وتحت أوهام الدور المتميز، تريد الاستمرار في التأجيج، واستجلاب دول الجوار للمزيد من الخوض في الدم العربي.
أما المشهد الثاني للإرهاب فيما بين لندن وطهران فهو يبلْور المصيبة التي نزلت بالعرب نتيجة هذا الانشقاق في الدين وعلى الدولة الوطنية والاستقرار والعلاقة بالعالم. فإرهابُ «داعش»، والذي يترنّح في سوريا والعراق بعد أن تسبَّب في الخراب والقتل والتهجير، يهدف من وراء دفْع أنصاره إلى اجتراح المزيد من الدماء والخراب، إلى زيادة سوء العلاقة مع العالم.
أمّا ضرباتُ الإرهاب في طهران وللمرة الأُولى، فكان ينبغي أن تنبّه السلطات الإيرانية إلى أنّ من يحفر الحفرة لغيره يوشكُ أن يقع فيها بنفسه. لقد ناقشت المخابرات الإيرانية «داعش» وقبلها «القاعدة»، ووجّهتهما وأعادت توجيههما لإحداث كل هذه المصائب، وكان الهدف أن تأتي بعدهما ومعهما وتتسيَّدَ على هذا الخراب الجميل! لقد كان الإيرانيون حاضرين في العراق وسوريا عندما سيطرت «داعش» على مساحاتٍ شاسعةٍ في البلدين، وتراجع أو هرب الجيشان السوري والعراقي وتركوا الدواعش والقاعديين يسيطرون على مدن وبلدات. وخلال أربع سنواتٍ من تدخل إيران العسكري في سوريا والعراق. وكثرة صراخهم ضد التكفيريين وهتك مزارات أهل البيت، ما سارعوا لمقاتلتهم، بل اهتموا بقتل وتهجير الشعبين السوري والعراقي. وتركوا مسؤوليات مقاتلة الإرهابيين على عاتق الأميركيين وحلفائهم بالعراق، وعلى عاتق الأكراد والجيش الحر السوري. هل استفاد الإيرانيون مَثَلاً درساً من هذا الهول الهائل؟! أبداً، إذ على أثر الهجوم على قبر الخميني ومجلس الشورى، سارعوا إلى اتهام السعودية والولايات المتحدة! بل وخلال السنوات الثلاث الماضية، ما اكتفى الإيرانيون باستثمار الهول السوري والآخر العراقي؛ بل سارعوا لفتح جبهةٍ جديدة على العرب والسعودية في اليمن، وعلى يد تنظيمٍ اصطنعوه وسلَّحوه وهو لا يقلُّ سوءًا عن «داعش»، هو التنظيم الحوثي.
ولنصل إلى المشهد الثالث، أي المشهد السوري. منذ عام 2014 ما عاد نظام الأسد قادراً على حماية العاصمة دمشق من وطأة المسلحين. لذلك استولى على ساحة حمايته الإيرانيون والروس. ومذ مطلع عام 2016 بدأت الكفة تميل لصالحهما عسكريا، أي لصالح الروس والإيرانيين. لذلك وبعد أن خرّبوا وهجَّروا قرابة الإثني عشر مليوناً في سوريا، وخمسة ملايين بالعراق، وقتلوا مع «داعش» مليوناً بالبلدين، أرادوا استكمال الغزوات المظفَّرة- ودائماً تحت عنوان مكافحة الإرهاب- بالذهاب إلى جنوب سوريا والتمركز على الحدود الأردنية، منتظرين أن يلاقيهم «الحشد الشعبي» من العراق، لاستكمال المجزرة التي لم يفرغ منها الحشد العظيم بالعراق بعد. لماذا يفعلون ذلك؟ لعدة أهداف؛ الأول أنّ منطقة نفوذ الإيرانيين في سوريا تحددت فيما بين حمص شمالاً وشرقاً ودرعا وحدود الأردن جنوباً ولابد من الاستيلاء عليها. والثاني أنهم بعد أن أوشكوا على السيطرة على العراق وسوريا ولبنان، يريدون تهديد الأردن وحصاره لتكتمل سيطرتهم على المشرق العربي، وليكونوا على أوتوستراد سريع فيما بين طهران والبحر المتوسط. والثالث أنهم يريدون مساومة أميركا وإسرائيل على هذا المشهد الجديد، كما فعلوا من قبل من خلال لبنان. والرابع أنهم يريدون الاستمرار في تطويق السعودية من شتى الجهات: من جهة العراق، ومن جهة اليمن، والآن من جهة الأردن. والمهم أنهم منزعجون الآن لأن الطائرات الأميركية أغارت عليهم مرتين لمنعهم من الاستيلاء على المثلث الحدودي المذكور!
هناك درسان يكونُ علينا نحن العرب أن نتعلمهما: الأول أنه ما حكَّ جلدك مثل ظفرك. لذلك فإنّ الذي يعمل عند الغير لن يلقى تضامُناً ولا مساعدة، وسيجد نفسه يعمل ضد بني قومه. والثاني أنّ هذا البحر من الدماء والتهجير والإخضاع في سوريا والعراق ولبنان هو مسؤوليةٌ عربيةٌ. وإذا لم نعِ ذلك ونعمل معاً؛ وفي الطليعة السعودية ومصر؛ فستظلّ بلداننا ساحاتٍ للحروب الإقليمية والدولية.

 

 

الاتحاد