وأخيراً... إكتشفوه، بعدما عصروا أدمغتهم حتى النزْف، وتورَّمتْ أصابعهم من تدليك الفانوس السحري.
 

إنه قانون النسبية... ومع أن أبواباً سريّة فيه لا تزال مفاتيحها غامضة وموضوع نزاع، فقد كان همّهم الأهم كيف ينسب كلٌّ منهم فضل هذا الإكتشاف الى نفسه.

ولكن، غاب عن الفيزيائيّين، ولا سيما المسيحيين منهم، أنَّ قانون النسبية اكتشفه قبلهم الفيزيائي الإلماني الأصل: «ألبرت أينشتاين» وأعلنه سنة 1905، وهو ينص على «أَنَّ حركة الأجسام تكون نسبية مع تغيير الوقت ونسبية بين الزمان والمكان..».

ومع أن النسبية هي القانون الإنتخابي الأفضل لواقع لبنان، إلّا أنّ المكتشفين الجدد، جوّفوه من مضمونه الإيجابي، وشوَّهوا مفاعيله على المستوى الوطني، ومسخوه دوائر تراعي حركة أجسام الزعماء دونما تغيير في الزمان والمكان، فإذا لكلِّ فريق قانونه الخاص، ولكل مذهب دوائره الخاصة، ولكل زعيم حصته المحسوبة والمحسومة.

ولعلّ أخطر ما في الأمر، هو تجميع الأصوات المسيحية في جزيرة مذهبية، تواجهها أصوات إسلامية في جزيرة مقابلة، بما يشكّل فرزاً مذهبياً مشرَّعاً بالقانون، الى جانب الفرز السكاني الطائفي الذي خلّفته الحرب المدمّرة سنة 1975، والفرز المذهبي التهجيري الذي خلّفه تهجير جبل لبنان الجنوبي واقتلاع كلّ من فيه وما فيه من بشر وحجر، منذ سنة 1976.

بدل تقليص الحضور المسيحي المنتشر الظلال على مستوى خريطة لبنان، بهدف تحقيق مكاسب آنية تعوِّم حصة الزعماء الموارنة الجدد، فإن ضرورات الإستمرار المستقبلي، تحتّم إعادة انتشار المسيحيين في المناطق التي هجرتهم منها الحروب، والإفادة من قانون الإنتخاب لتعزيز هذا الإنتشار وتكثيفه، لأن الإنغلاق على الذات يجعل المسيحيين جسماً مبتوراً، تنكفئ سواعده من الأطراف لتتقاتل فيما بينها في الداخل.

لقد كان عهد الإنتداب أبعد نظراً حيال أهمية الإنتشار المسيحي وتعزيز الوحدة الوطنية من خلال قانون الإنتخاب، حين اتفق المفوض السامي الفرنسي
الجنرال «سرّاي» Sarrail مع «ليون كيلا» المسؤول عن حاكمية لبنان الكبير سنة 1925 على تعديل قانون الإنتخاب باعتماد نظام اللائحة والتمثيل النسبي وتقسيم لبنان الى خمس دوائر إنتخابية على أساس المحافظات الخمس.

فيما المفوض السامي اللبناني لم يتورع عن العَبث بالخريطة الإنتخابية وتقسيمها بما يشبه التشطيب الى خمس عشرة دائرة تشكل مقاطعات طائفية ومذهبية وحزبية، خلافاً للدستور ولمنطق قيام الدولة.

وعلى شكل صورة سلطة التشريع تكون صورة الحكم وصورة الأرض فيصبح لكل سلطة مذهبها، ولكل منطقة دينها، ولكل دائرة نبيّها، فإذا حركة الصراع السياسي تتحول الى حركة مذهبية حادّة، تتمحور حول التساؤل الذي طرحه الشاعر أبو العلاء المعري ذات يوم:

كلٌّ يعظِّم دينَهُ يا ليت شعري ما الصحيح...؟

وهو التساؤل الحلم، الذي عبّر عنه كمال جنبلاط في كتاب التحدّي الكبير (ص.338) بقوله:

..«نحلم بأن تصبح هذه الدولة دولة مدنية، لا دولة مار مارون، ولا دولة النبي محمد، وطبعاً لا دولة الحاكم بأمر الله...»
وأخشى ما نخشاه أن يظل الأمل بهذه الدولة مجرد حلم، لا يراه اللبنانيون إلّا في النوم.