عاد سجال «جهاد النكاح» إلى الواجهة في ظل نزاعات أوسع منه. مسلسل الغرابيب السود الذي تبثه قناة «أم بي سي» عرض مشاهد درامية أشارت إلى وجوده، بينما شنت قناة «الجزيرة» حملة على مروجي هذه الإشاعة، واعتبرت أن ترويجها عبر الدراما الرمضانية بمثابة استجابة لخطاب النظام السوري الذي وقف وراءها.
والحال أن «الجزيرة» محقة في أن «جهاد النكاح» إشاعة، وأن أحداً لم يجد أثراً لواقعة تشي بصحته. كاتب هذه السطور كان في تونس حين قال وزير داخلية حكومة النهضة (الإخوان المسلمين) لطفي بن جدو (عام 2014) أن هناك أكثر من 50 حالة «جهاد نكاح» في تونس، وأن النساء عدن إلى تونس والحكومة تتعامل مع الموضوع. يومها تقاطر الصحافيون من كل أصقاع الأرض إلى تونس، ولم نوفر مدخلاً أو باباً إلا وطرقناه بحثاً عن هذه الحالات من دون أن نعثر على حالة واحدة، إلى أن عاد الوزير ونفى ما قاله.
لكن هل إعادة الحديث عن «جهاد النكاح» هو استجابة لخطاب النظام في سورية؟ وهل هذا النظام وحده هو من وقف وراء هذه الإشاعة؟ ثم أن التصدي لهذه الإشاعة، ألا يمكن أن ينطوي على رغبة في الدفاع عن «داعش»؟
في البداية يجب القول إن النظام في سورية ووسائل الإعلام المنحازة إليه حاولت توظيف الإشاعة وتصوير ما يجري في سورية بصفته صراعاً بين شر مطلق تمثله «داعش» وخير مطلق يمثله النظام وحلفاؤه الإيرانيين. لكن النظام اعتمد في ذلك على ما هو ممكن وعلى ما هو قابل لأن يكون حقيقة، فـ «داعش» ارتكب ما هو أفظع من «جهاد النكاح». ارتكب السبي مثلاً، هو يعني امتلاك بشر لبشر. استئناف لعبودية كانت البشرية جمعاء قد تجاوزتها منذ عقود طويلة. أحرق بشراً ورمى بأناس من الطوابق العليا. أعدم المئات يومياً، وجلد الناس على الطرق. «جهاد النكاح» تفصيل طفيف على هذا الصعيد، ولا يكفي أن يكون النظام السوري وراء إشاعة وجوده لكي تستيقظ فينا الرغبة في التصدي لها. فالحقيقة الصحافية تقضي بأن نقول أننا لم نجد أثراً له، لكن «داعش» خصّب الخيال الذي يحتمل وجوده.
ثم أن القول إن النظام السوري وحده من وقف وراء الإشاعة قول مجتزأ، ذاك أن تصريحات بن جدو موثّقة، وهو كان وزيراً في حكومة يرأسها النهضوي الراديكالي علي العريض، وتصريحات الوزير كانت أقوى في تعزيز الإشاعة مما بثته وسائل إعلام النظام السوري وحلفائه.
ثم أن الإشاعة، أي إشاعة، ذكية في تفشيها، وهي حين تكون غير ذلك لا تتحقق كإشاعة. وكم يليق «داعش» بهذه الإشاعة، لا بل هي أقل بكثير من حقائق موثقة عنه.
وليس للإشاعة وظيفة واحدة، فهي تستعين بما يتوافر لها من تقنيات. إشاعة «جهاد النكاح» كانت أقوى من محاولات ردها ونفيها، على رغم صلابة هذا النفي وموثوقيته. الناس يرغبون في أن يسمعوا عن «داعش» ما زوّدتهم به الإشاعة، وهذا ليس دفاعاً عنها، إنما محاولة للبحث بما وراءها، وأيضاً محاولة للقول إن الإشاعة ليست شراً مطلقاً، وأن مطلقها يُدرك أنها قابلة للتصديق.
نعم، قد يستفيد النظام في سورية من تعزيز إشاعة «جهاد النكاح» في دراما تلفزيونية، لكن تحديد هذا المعيار بصفته وسيلة تخوين، ينطوي أيضاً على رغبة عميقة بالدفاع عن «داعش». فالنظام في سورية استفاد من تفجيرات باريس مثلاً، فهل يكفي ذلك للصمت على جريمة «داعش» في باريس؟
سجال «الجزيرة» للغرابيب السود هو جزء من سجال سياسي لا دافع صحافياً أو مهنياً له، وهو بهذا المعنى يسلك طريق الإشاعة نفسها، ذاك أن الأخيرة لا توفر في اشتغالها المساعي المحمومة لنفيها، لا سيما إذا كانت الأخيرة جزءاً من انقسام يتعداها. فالركاكة إذا ما أصابت الدراما، تصبح صلبة إذا ما كانت مستهدفة بغير النقد المهني. أما الإشاعة، فهي أذكى من النظام السوري، وأكثر تعقيداً من نواياه. فهي استعانت بوزير حكومة النهضة وبوسائل إعلام النظام في سورية، ولكن هي استعانت بشكل أساسي بما يمكن أن يوفّره «داعش» من مادة للخيال.
النظام في سورية قد يستفيد من تعزيز الإشاعة، لكن «داعش» سيستفيد حكماً من خطاب نفي الإشاعة. وكان الأجدر بـ «الجزيرة» في حال كان دافعها الفعلي الحد من احتمالات توظيف النظام للإشاعة، أن تسأل عن أسباب عدم تصدّي مسلسل تلفزيوني واحد لجرائم النظام في سورية! هنا يصبح النقاش مهنياً ومجدياً، وغير مندرج في انقسامات خارجه.