لا بديل من هذه التجربة اللبنانية الحضارية الرائدة في الشرق، أقله لانعدام البدائل
 

لو أراد موارنة لبنان المؤسسون بقيادة بطريركهم الياس الحويك دولة أصغر مع تعديلات على حدود المتصرفية بعد انتهاء الحرب العالمية لكان ذلك في مستطاعهم. كان هذا الخيار مفضلاً في الأصل لدى غالبية النخبة الحاكمة في فرنسا. وكان اليهود يسعون في تلك الحقبة الى انتزاع وطن خاص بهم على أرض فلسطين من الأمم التي ربحت الحرب. رفض الموارنة خيار "لبنان الصغير" ذي الغالبية الديموغرافية المسيحية، ولو قبلوا لكانوا عاجلا أو آجلا اضطروا الى التحالف مع نواة الدولة اليهودية لمواجهة خطر مشترك وطبيعي نتيجة لانفصال الجماعتين عن البيئة الاسلامية العربية حولهما واختلافهما عنها وتوق كل منهما إلى إنشاء دولة على مثال دول الغرب.

والحال ان مقاربة مسيحيي لبنان للمسلمين والعرب تتسم بالإيجابية والتفاؤل، وتشكل نقيضاً تاماً لمقاربة اليهود السلبية والمتشائمة. يعود ذلك على الارجح الى اختلاف التجربتين التاريخيتين لكل من الجماعتين على هذه البقعة الضيقة من الأرض، وبالمقدار نفسه لطبيعة كل منهما النفسية الجماعية. تمتع الموارنة في مدى طويل- وإن قطعته استثناءات- بقبول البيئة المحيطة بهم. شجّعهم الحكّام الدروز خصوصاً على المشاركة في ادارة الجبل والتوسع الجغرافي والازدهار في بيئة حرية وأمن وازدهار، واندمجوا تماماً في حركة الثقافة العربية بل صاروا روادا فيها. وقعت حوادث 1860 صحيح، وحوادث أخرى قبلها وبعدها، لكن جرى تجاوزها على أساس أنها فتنة دبّرها الحكّام العثمانيون وكانت للانكليز أصابع فيها وانتهت الى اطمئنانهم إلى مساندة فرنسا لهم في الملمات. "الأم الحنون" كان كل الخوف أن تتخلى عن أولادها، أو تنهزم أمام الأمم الأخرى وتتركهم لمصيرهم، كالأرمن والسريان وسائر الأقليات التي يبطش بها الاستبداد ذو الخلفية الدينية في شرق دموي يُصاب بجنون بين حقبة وأخرى من التاريخ.

العيش مع المسلمين في دولة واحدة اسمها الجمهورية اللبنانية، وعلى قدم المساواة في الحق في الحرية والأمن والاحترام، كان خياراً هائلاً بأهميته ذهبت إليه قبل 97 سنة الجماعة المسيحية في لبنان. كانت خارجة من محنة مجاعة وهجرة ولا أفظع، قرّبتها إلى أقصى حد من خطر فناء تام كان سيمحو أثرها من هذه الزاوية في الشرق. دولة مدنية سبّاقة بين دول المنطقة ومتفردة بإسقاط التمييز على اساس الدين من دستورها، وإعلاء الولاء الوطني فوق كل ولاء.

يقول بعضهم اليوم من الخائفين المسيحيين إن التجربة الخطيرة تلك قد سقطت سقوطاً عظيماً. ثورة 1958 بتأثير وهج عبد الناصر كانت مؤشراً إلى فشل الرهان عليها. ولعل ذروة انهيارها تمثلت في إعلان المراجع الإسلامية في بدايات حرب السنتين أن "جيش التحرير الفلسطيني" هو "جيش المسلمين في لبنان". حسناً ولكن ردّ المقاتلين المسيحيين، الذين وقف العرب ضدهم ولم تنجدهم فرنسا ودول الغرب الأخرى لم يتأخر طويلاً، إذ مدّوا اليد إلى الدولة اليهودية كي تمدّهم بأسباب البقاء قيد الحياة. كانت حقبة أليمة انتهت بكارثة على الجميع. العبرة أنه عندما تصاب بيئة دينية- سياسية في لبنان بالجنون، لا بد أن تنتقل العدوى إلى البيئة الأخرى المقابلة.

والواقع ان هذا بالضبط الخطر الشديد الكامن وراء ما يفعله "حزب الله" في لبنان هذه الأيام: نشر الروح المذهبية وتحدّي الجماعات الأخرى من خلال هذا الشعور بالتفوق بفعل امتلاكه سلاحاً فوق طاقة طائفة على التحمل، وميليشيا فاعلة بقوة تثير المخاوف من ارتدادها على بقية اللبنانيين يوماً كما فعلت ذات "7 أيار مجيد" في 2008، أو في أعمال اغتيالات لقادة وسياسيين تثور شبهات قوية في تورط هذا الحزب غير اللبناني عقيدةً وهيكلية فيها.

فوق هذا الواقع كله، نَعَم بدا للجميع في مراحل متفاوتة منذ 1975 أن تجربة العيش معاً في ظل دولة مدنية في لبنان قد أخفقت، ويستحيل أن تعيش في ضوء تغيرات الديموغرافيا والعودة إلى تصعيد الولاء الديني. لكن تجربة الدولة اليهودية كما "الدولة الإسلامية" (داعش) أخفقت بدورها وسقطت تحت وطأة لا إنسانيتها ولا أخلاقيتها. ومثلهما تجارب الدول "العلمانية" افتقدت أبعاد حرية الإنسان وحقه في المساواة والاحترام.

لا بديل من هذه التجربة اللبنانية الحضارية الرائدة في الشرق، أقله لانعدام البدائل. على المسيحيين كما على المسلمين المضي فيها قدماً وأن يتحمل بعضهم بعضاً رغم ملاحظات كل طرف على الآخر وضيقه ذرعاً به أحياناً. "لبنان الكبير" بلد جميل يستحق هذا الرهان الكبير، يعطي أبناءه جميعاً معنى ورسالة لوجودهم في هذا الشرق المظلم. وإلا فما أهون العيش للمسيحيين والمسلمين في دول تعتنق شعوبها إيمانهم الديني. السعودية وإيران ومونتي كارلو، ماذا سيضيفون إليها؟