جاء الإعلان بالرياض عن مركز مواجهة التطرف (اعتدال) بعد أن اشتهرت تغريداته على وسائل التواصل لمواجهة أُطروحات المتطرفين، ونشر أفكار الوسطية والاعتدال. ولنلاحظ أنّ المركز هو لمواجهة التطرف، وما ذُكر الإرهاب في العنوان، الذي يُعنى بالأمور العسكرية والأمنية بالدرجة الأُولى. وهكذا فإنّ المركز همُّه المواجهة الدينية والفكرية والثقافية والإعلامية وما اتّصل بذلك من نشاطاتٍ على وسائل التواصل.
كان شعار حملات مواجهة الإرهاب دائماً التصدي لأُطروحات «القاعدة» و«داعش»، لمنع تكون أجيال جديدة تلتحق بتلك التنظيمات الإرهابية. وقد قامت بذلك وتقوم الجهات العربية والدولية. ومنذ عامي 2013 - 2014 انضمت إليها المؤسسات الدينية، التي انصرفت لإقامة الندوات والمؤتمرات التي تتتبَّع أعمال الإرهابيين في الميدان وعلى وسائل التواصل، وتنقد عمليات تحريف المفاهيم وتحويلها مثل الجهاد والعنف والشريعة والدين والدولة. وفي النصف الثاني من عام 2016 بدأت الجهات الدينية والعربية والدولية تُصرّح ببعض النجاحات، باعتبار أنه قلَّ المنضمون الأجانب والعرب إلى المقاتلين في العراق وسوريا وليبيا. لكنْ من المشكوك فيه أن تكون الحرب الإلكترونية والإعلامية هي سبب الإعراض عن الانضمام لـ«داعش»؛ وذلك لأنّ الإرهاب وفظائعه استمرّا في كل مكانٍ ظهرا فيه منذ عام 2013، ولأنّ ظواهر «الذئاب المنفردة» استشرت في أوروبا، وهذا فضلاً عن الفظائع التي حصلت وما تزال تحصل ضد الأقباط في مصر وفي الكنائس كما في الشارع! فإذا كان المنضمون إلى تنظيمات الإرهاب من خارج العراق وسوريا قد قلُّوا، فالراجح أنّ ذلك لم يحصل لبروز قناعاتٍ مخالفة؛ بل بسبب الإجراءات المتخذة من سائر الدول التي تحول دون الوصول. ومن جهة أُخرى فلأنّ مغامرات الداعشيين والقاعديين بالعراق وسوريا تتجه إلى انقضاءٍ كارثي وسط خراب البلدان والعمران، وهي في هذه الحالة ما عادت تُغري أحداً بالانضمام أو محاولة ذلك. ولذلك تكاثرت العمليات الإرهابية خارج سوريا والعراق، وبإغراءٍ من «داعش» أو من دون إغراء، وهو الأمر الذي يُشعر باليأس والإحباط.
هل يعني ذلك قلة جدوى الحرب الدينية والفكرية والإعلامية على الإرهاب؟ على العكس من ذلك؛ فإنّ جهود مكافحة التطرف والإرهاب آتت أُكُلَها، إنما من حيث لم يقصد الذين قاموا بها. فقد كان المقصد الحيلولة دون الانضمام، وإغراء الذين انضموا بالمغادرة، ومنع تكون أجيال جديدة. وهي ما كانت مؤثرة كثيراً بالفعل في هذه المجالات أو بحسب التوقعات. لقد كان الإعراض عن الانضمام محتاجاً إلى صدمات الفشل والملاحقات والموت. أما المناعة في مواجهة الانحراف والتطرف العنيف فقد انبنت خلال ثلاثة أعوامٍ لا أكثر، وتحتاج إلى مزيد من المساعي والبرامج ليصير النجاح ملحوظاً بل كبيراً. 
ما معنى التطرف؟ التطرف هو كل خروج على السوائد في المجتمع أو الدولة أو الدين أو الشأن السياسي. وهذا الخروج قد يكون بسيطاً وقد يكونُ عظيماً وهائلاً، مثلما يقال عن أقصى اليمين أو أقصى اليسار في العمل السياسي. فإذا كان التطرف قوياً في دوافعه الاعتقادية والمصلحية؛ فقد يؤدي إلى عنف. ولذلك فإنّ المتطرفين في الدين أو في السياسة هم الأكثر لجوءاً للعنف من أجل تحقيق أغراضهم الدينية أو السياسية. فالاعتقاد الديني جازمٌ ويبعث على إيمانٍ شديدٍ بضرورة التحقيق أو التطبيق أياً تكن الفكرة التي استقرت. وتأتي الضرورة حذراً من التداعيات. فالذي يهمل اعتقاداً دينياً يعتقد أنه مهملٌ للواجب، واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما التطرف السياسي فإنه قد يدفع للعنف لأنّ صاحبه يصارع على السلطة ويريد الوصول إليها بأي ثمن.
يقف المتطرف في مواجهة ماذا؟ في مواجهة الجمهور أو الـMain Stream أي التيار الرئيسي أو السائد. وللجمهور اعتقادات وأعراف وعادات وقوانين. لكنّ المتطرف الديني أو السياسي يعتبر أنّ ما هو عليه هو الصحيح، وبالتالي ينبغي أن يكون هو الشرعي. وعندما يتعاظم اعتقادُهُ بصحة ما هو عليه من رأْي أو توجُّه؛ فإنه يُواجهُ الجماعة أو السواد الأعظم فتعلن الجماعة انشقاقه عنها، لأنه وإن يكن هدفه المعلن من أجل التصحيح بعيداً؛ فإنه يظلُّ منشداً إلى «العدو القريب» باعتباره منشقاً عنه، وهما يتصارعان على أرضٍ واحدة، ولا بد أن يزيل أحدهما الآخر. لقد أدت «القاعدة» قسطها العلي ضد «العدو البعيد» (الولايات المتحدة) عام 2001. أما بعد ذلك فإنّ «جهادها» ينبغي أن يتجه إلى العدو القريب في مصر والسعودية، وحيث يتيسَّر في ديار المسلمين لأنها تريد أن تكون البديل الشرعي لهم، وما لم تتمكن من كسرهم والسواد عليهم؛ فإنّ شرعيتها لا تثبت، وتظل انشقاقاً في عيون زعمائها وعيون الآخرين. كل انشقاقٍ ينعكف على أصله من أجل إزالته أو إخضاعه. وهذا معنى أن تكون «القاعدة» ويكون «داعش» أكثر عداوة لزعامة الإسلام السني في السعودية ومصر، منهما للشيعة وإيران وبشار الأسد، رغم التصريحات العلنية العنيفة ضد الشيعة!
كيف أفادت حملاتُ السنوات الماضية في مكافحة الإرهاب، رغم أنها ما أضرَّتْ به بشكلٍ مباشر؟ الحملات ذات الطابع الديني والفكري والسياسي أثّرت أكثر في الجماعة أو الجمهور، بمعنى أنها أعادت بناء الـMain Stream؛ وذلك لأنها اشتغلت على وعيه ومصالحه وتاريخه وحواضره وتقاليد عيشه وأعرافه، بحيث بدت تصرفات المتطرفين العنيفين خارجة عن الذوق والعقل والمصلحة والحياة الإنسانية الكريمة. وقد مرَّ ذلك (أي إعادة بناء الأكثرية والإجماع) بمرحلتين: مرحلة اليوفوريا الهشّة التي انتهت بغزو أفغانستان والعراق، وأدت إلى انهيارات وضياع في أوساط الجمهور. والمرحلة الثانية: بناء أكثريات وإجماعات ضد الإرهاب، واستطراداً ضد التطرف. وقد حدث ذلك بالتحديد خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية. وقامت بهذا الجهد جهتان: الدوليون الذين صعّدوا العنف بشكل غير مسبوق - والدول العربية والإسلامية ومؤسساتها الدينية التي عملت على تصحيح المفاهيم، وعلى تبصير الجمهور بالأضرار الناجمة عن تصدع الدول وتشرذم المجتمعات. وكان من العلماء من ركّز على أضرار التطرف على الدين خاصة، فضلاً عن الدول والمجتمعات.
إنّ اتجاه إعادة بناء السواد الأعظم أو الرأي العام أو الجماعة أو الـMain Stream، هو الاتجاه الاستراتيجي الذي ينبغي سلوكه خلال المرحلة الأمنية، وما بعد «داعش» و«القاعدة». ولذلك فإنّ المركز العالمي لمواجهة التطرف شديد الأهمية، وينبغي على الباحثين والخبراء والناشطين المُضي بواسطة شبكات التواصل، والتغريدات والفيديوهات والمقالات والدراسات والتحقيقات في ثلاثة مسارات: مسار التشنيع والتسفيه ولذلك طرق وطرائق لا تنتهي، ومسار مكافحة تحريفات المفاهيم والسلوك؛ وهذا مسارٌ يحتاج إلى علماء دين وخبراء وإمكانياته أيضاً لا تنتهي؛ لأنه لا يتناول أضرار التحريفات في الفكر والسلوك فقط، بل يضم أيضاً الأضرار الناجمة عن ضعف الدول وتشرذم المجتمعات، وبهذا المعنى فهو موجَّهٌ بالدرجة الأولى للجمهور. أما المسار الثالث، وهو الأكثر طموحاً، فيتضمن العمل على سردية إسلامية جديدة للأمن والسلام، وهذه السردية تدخل في حيز التصورات الشاملة والإبداعات، وما عاد من الممكن الاستغناء عنها. ولا بد من مناسبة للحديث عنها.