عن تسعين عاماً ، مات قبل أيام، الرجل الذي يجوز ان يلقب بالداعية الأبرز والأهم في التاريخ الحديث للإسلام السياسي.. مع أنه لم يكن مسلماً ولا يعرف الكثير عن العقيدة الاسلامية ، ولا يكن الود للديانة المحمدية..ومع أن أحداً لم يودعه من الاسلاميين المتشددين وتنظيماتهم المتطرفة السنية والشيعية التي تحرق الارض ومن عليها، ولو بكلمة رثاء او وفاء.

مات زبغنيو بريجنسكي، المفكر السياسي الاميركي الذي شغل منصب مستشار الامن القومي للرئيس الاسبق جيمي كارتر في نهاية سبعينات القرن الماضي، وساهم عقله الاستراتيجي الذي لا شك في براعته، في ذلك التحول الجذري الذي شهده العالم الاسلامي في تلك الحقبة، وما زالت تبعاته مستمرة حتى يومنا هذا، من دون أدنى أمل بالتخلص من ذلك الإرث المروع الذي تركه ذلك الدبلوماسي الداهية. قيل في الرجل أنه أحد منظري الاعتدال والانفتاح الذي تميز به الرئيس جيمي كارتر تجاه القضية الفلسطينية والحاجة الى تسويتها، وأنه أحد أوائل المتحمسين لفكرة الضغط على إسرائيل من أجل إبداء المرونة اللازمة، بعدما حصلت على الجائزة الكبرى في معاهدة كامب ديفيد مع مصر. لكن ما لا يشاع، وما لا يمكن العثور عليه بسهولة إلا في الكتب والوثائق السرية ، هو أنه كانت لدى  بريجنسكي نظرية إستراتيجية  أبعد وأعمق من الصراع العربي الاسرائيلي، عنوانها تفكيك الاتحاد السوفياتي من الداخل، بدافع ترسيخ زعامة أميركا طبعا، وربما أيضا الانتقام لجذوره البولندية التي إضطهدها السوفيات بقدر النازيين.

كانت فكرة بريجنسكي تتصل بما أرساه أسلافه المسؤولون والمفكرون الاميركيون (والاوروبيون مثل هيلين كارير دونكوس) الذين أكتشفوا الاسلام كسلاح حاد في وجه الشيوعية، وتقوم على محاولة إختراق الاتحاد السوفياتي من خاصرته الاسلامية الرخوة بدلا من مواجهته من البوابة الاوروبية المحصنة، وتحويل جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية من قلاع حدودية للدفاع عن الكرملين الى منصات لشن الهجوم النهائي لهدم ذلك الحصن الشيوعي المنيع.  

على هذا الاساس، كان بريجنسكي أول الداعين الاميركيين الى رحيل شاه إيران، حتى قبل التأكد من إصابته القاتلة بالسرطان، و كان أول المخططين لانقلاب عسكري إيراني يخلف حكم أسرة بهلوي(1978)، ثم كان أول المراهنين على عودة الإمام الخميني المظفرة الى طهران على متن طائرة إير فرانس حلقت بحماية جوية أميركية من باريس الى مطار مهرباد.. وكاد يكون أول المهنئين بنجاح الثورة الخمينية لولا حماقة الثلاثي الايراني أبو الحسن بني صدر ، ومهدي بازرغان ، وإبراهيم يزدي، الذي كان يطمح الى إزاحة رجال الدين وإقامة حكم مدني في إيران، فدفع الثمن باهظاً ، مثله مثل رهائن السفارة الاميركية يومها.

لم تلتقط موسكو أخبار إنقلاب الخميني المفاجىء على الاميركيين ورجالهم في طهران، أو لعلها لم تصدقها، فسارعت الى غزو أفغانستان لحماية حدودها الجنوبية، وجمهورياتها الاسيوية، وتعديل موازين القوى الاستراتيجية مع أميركا، وإغتالت رجلهم الباكستاني القوي الجنرال ضياء الحق.. عندها أطلق الماكر بريجنسكي، الذي ساءه فشل مخططه الايراني، واحدة من أخطر  التجارب الاميركية، السياسية والعسكرية والايديولوجية: المقاومة الافغانية للمحتل السوفياتي، التي تحولت في ما بعد الى حركة "مجاهدين"، ما زال العالم الاسلامي يعاني حتى اليوم من مخلفاتها المنتشرة في كل مكان. في تلك الحقبة بالذات، وفي غضون أشهر قليلة كانت أصداء الزلزال الايراني تتردد في كل مكان: في السعودية جرت عملية جهيمان في الحرم المكي، مستلهمة الثورة الخمينية. في مصر أغتيل أنور السادات بدافع إسلامي أقوى من الدافع السياسي(معاهدة كامب ديفيد). في العراق إستعد صدام حسين للحرب على الحدود الشرقية. في سوريا ، قفز حافظ الاسد الى طهران ليعلن الولاء والبراء. في لبنان، بدأت تصفية اليسار اللبناني والاعداد للوريث الشيعي..

في سنواته الاخيرة، ظل بريجنسكي يعتبر واحداً مع ألمع المفكرين الاستراتيجيين الاميركيين مع صديقيه الشخصيين هنري كيسنجر وبرنت سكوكرفت، مع ان هجمات 11 ايلول 2001 هي من حصاد تجربته الافغانية البائسة، ومع ان مختلف التنظيمات الاسلامية التي ورثت"القاعدة" أو إنبثقت عنه، هي نتاج "المجاهدين الأفغان" الذين ما زالت اسماؤهم تتردد في كل تنظيم إسلامي متطرف مقيم  في البقعة الواقعة بين المحيط الخليج، وما زال يعمل في رقاب المسلمين.

الآن يمكن الزعم أن ذلك الداعية - الداهية، بريجنسكي، كان يعد وينفذ مؤامرة لتعميم الخراب والدمار في ديار الاسلام، لكن المساعدة الهائلة التي تلقاها من المسلمين أنفسهم لم تقتصر على شذاذ الآفاق من "المجاهدين الأفغان". ثمة أنظمة ومؤسسات حكم عربية وإسلامية، ما زالت حتى اليوم، تساهم بتكوينها  وبسلوكها ، في إنتاج أجيال متلاحقة من "المجاهدين العرب".. مات بريجنسكي، لكن إرثه الاسلامي لن يموت.