غياب أي رؤية تقوم على حسم خيار مرجعية الدولة والتسليم بقواعدها وشروطها الوطنية والدولية، كفيل بأن يجعل المجتمع عرضة للمزيد من الآفات والجرائم والبطالة
 

فيما تنهمك الحكومة اللبنانية بالجدل الدائر حول قانون الانتخاب، تسير الدولة اللبنانية نحو المزيد من تراكم الأزمات التي تتخذ بعدا اجتماعيا واقتصاديا وماليا، فالأرقام التي يجري تداولها حول تراجع قدرة لبنان على الإيفاء بالتزاماته المالية، يقابلها تراكم في الدين العام بات يهدد المالية العامة التي تعاني من عجز متراكم في الموازنة فرضت على البنك المركزي اعتماد ما سمّي بالهندسة المالية، وهي باختصار عملية قام بها حاكم مصرف لبنان في سبيل توفير السيولة المالية عبر تقديم إغراءات لأصحاب الأموال بإقراض الدولة مقابل فائدة بلغت في الحد الأدنى 20 بالمئة. ليس هنا الخبر، بل الخبر أنّ هذه العملية تمت بالتواطؤ بين مصرف لبنان وبعض أصحاب المصارف وبعض القوى الحاكمة، بحيث أمكن لقوى السلطة هذه تغطية العملية سياسيا وقانونيا مقابل تقاسم قيمة الفوائد مع المصارف.

القوى السياسية داخل السلطة التي نجحت في فرض سجال عبثي حول قانون الانتخاب على اللبنانيين، كانت بذلك تقوم بتغطية أضخم عملية محاصصة في مجال النفط والكهرباء والاتصالات، وفي عملية تقاسم نفوذ على موارد السلطة ومصادرها من دون أن تحمل هذه العملية أي اهتمام بتقديم تصور لخطة نهوض اقتصادية اجتماعية، لمواجهة الأزمات المتراكمة والتي تنبئ بتداعيات اجتماعية برزت في السنوات الأخيرة من خلال ازدياد نسب البطالة، وتفاقم أزمة الاتجار بالمخدرات وتعاطيها، مع تراجع في المشاريع الاستثمارية، على أنّ المعضلة التي يمكن وصفها بالبنيوية تتمثل في تحويل الدولة ومؤسساتها القانونية التي تعاني من عجز متنام في ماليتها، إلى مكان يتم تحميله أعباء التوظيفات السياسية بحيث أنّ القوى السياسية تقوم، من دون حسيب أو رقيب، بإدخال الآلاف من الموظفين بطرق ملتوية إلى الإدارة العامة من دون النظر إلى الأعباء المالية التي تثقل على خزينة الدولة، ودائما تتم هذه التوظيفات لحسابات حزبية ضيقة وعلى قاعدة الزبائنية السياسية، أي التوظيف مقابل الولاء السياسي.

خبراء الاقتصاد في لبنان يؤكدون أن السياسات المعتمدة على هذا الصعيد تدفع إلى التشاؤم، لا سيما في ظل غياب أي سياسة تتحسّس واقع الاقتصاد الذي يعاني من غياب أيّ خطوات لدعم الاستثمار وجلب الرساميل إلى السوق اللبناني وإلى قطاعات الإنتاج، فيما يبرز عنصر جديد ضاغط ومرشح لأن تظهر تداعياته خلال الأشهر القليلة المقبلة، هو قوانين العقوبات الأميركية على حزب الله وعلى المتعاونين معه، وفي هذا السياق لاحظ اللبنانيون كيف أنّ بعض القوى المرشحة لأن تطالها العقوبات كالرئيسين ميشال عون ونبيه بري، أرسلت وفودا إلى واشنطن بغاية العمل على تفادي أن تنال العقوبات جهات أخرى غير حزب الله، إذ لم يشهد لبنان هذا الاهتمام الحكومي بالعقوبات في فترات سابقة رغم تأثيرها على لبنان وليس حزب الله فحسب، لكن تسرّب معلومات عن أنها ستطال المتعاونين مع حزب الله هو ما جعل المعنيين يقومون بإيفاد وزراء ونواب ومستشارين إلى واشنطن.

وسط هذه التداعيات برزت بشكل واضح في الآونة الأخيرة ظواهر تنم عن أسلوب مرشح للتنامي كلما أطبقت العقوبات الأميركية على حزب الله، فالتهريب وفتح الحدود أمام تدفق البضائع أو خروجها من لبنان بشكل غير قانوني بات أقرب إلى اقتصاد موازٍ تمسك به مجموعة من المافيات التي تتم تحت سقف القتال في سوريا أو تحت سقف عنوان المقاومة وهما يشكلان أحد أبرز الطرق لخرق القوانين على الصعيد المالي والتجاري، فالاتجار بالمخدرات ونقل الأموال غير المشروعة من وإلى خارج لبنان، لا يعتبران المظهر الوحيد لما يسمّى بالتجارة المحرمة وغير الشرعية، بل يمكن القول إنّ لبنان يتحول أكثر فأكثر نحو نظام المافيا في الاقتصاد، ما جعل منه معبرا لنهب الثروات السورية من خلال عمليات النهب المنظمة التي تتم من قبل جهات سورية وأخرى لبنانية، ومن خلال خلق مساحات محمية لصناعة المخدرات والمتاجرة بها في مناطق لبنانية – سورية حدودية تحظى بحماية خاصة. وفي هذا السياق تشير مصادر أمنية لبنانية إلى أنّ ثمّة شبكات مترابطة ومتعاونة على امتداد الحدود بين لبنان وسوريا، تسمّيها مافيات منظمة ومتعاونة مع مختلف الأطراف المسيطرة في سوريا، نجحت إلى حد بعيد في خلق رابطة من التعاون على مختلف الأنشطة غير القانونية في ما يمكن أن يسمّى بناء اقتصاد مواز تنتفع منه هذه المجموعات ويجري الإشراف غير المباشر عليه من القوى النافذة على الأرض، لذا فإنّ أطرافا عدة صارت معنية في لبنان وسوريا بحماية الوضع القائم عسكريا باعتباره يوفر مصالح مالية واقتصادية هائلة من عمليات التهريب وتجارة الممنوعات والآثار وصولا إلى تجارة السلاح وتهريب الأموال.

على أنّ ما تقدم لا تقتصر أضراره على الاقتصاد اللبناني وعلى سيادة الدولة فحسب، بل ثمّة ما يُلقي بثقله الاجتماعي داخل لبنان. فانخراط عشرات الآلاف من اللبنانيين في القتال في سوريا خلال السنوات الست الماضية، فرض نمطا من أنماط السلوك المافيوي الذي بات يثقل على البيئة الاجتماعية اللبنانية عموما، وبيئة حزب الله على وجه الخصوص، فظاهرة فرض الإتاوات على المواطنين من قبل بعض العصابات هي ظاهرة يتحدث عنها العديد من الذين يقيمون في مناطق نفوذ حزب الله أو في مناطق البقاع، وقد شهدت الضاحية الجنوبية ولا تزال مواجهات عسكرية مستمرة بين عصابات مسلحة والقوى الأمنية من دون القدرة على إنهائها، فيما تشهد البيئة، التي طالما كان يتغنى حزب الله بأنّها بيئة اجتماعية ملتزمة دينيا وأخلاقيا أي تلك التي يغرق فيها مقاتلوه، غرقا غير مسبوق في آفة المخدرات، ولذا يمكن ملاحظة أنّ غياب أيّ رؤية تقوم على حسم خيار مرجعية الدولة والتسليم بقواعدها وشروطها الوطنية والدولية، كفيل بأن يجعل المجتمع عرضة للمزيد من الآفات والجرائم والبطالة وغياب فرص الحياة الكريمة بحدودها الدنيا.

خيار لبنان المافيا هو الذي لا يزال يتحكّم بالسياسات العليا عبر تقاسم مؤسسات الدولة ومصادرها من قبل القوى الحزبية، فيما هذه السياسة من الأعلى لا يمكن أن تنعكس في المجتمع وفي قاعه إلا غيابا للقانون وتسيد المافيات على أنواعها في إدارة الحياة البائسة. علما وأنّ خيار الدولة في لبنان لم يزل معلقا رغم أنّ معظم المواطنين ينشدونه، لكن ثمّة وقائع سياسية تقوم على نزعة انتظارية لدى بعض القوى السياسية مفادها أنّ الترياق ليس لبنانيا ولا بد أن يأتي من الخارج.

بانتظار الترياق هذا فإن لبنان يعيش في ظروف سيئة وقاسية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا لم يعشها حتى في زمن الحرب، فلبنان اليوم يشهد استنزافا غير مسبوق للاقتصاد وللمجتمع وتتحكم فيه نزعات مافياوية في السياسة وفي المجتمع لم تكن حادة في الحرب كما هي في ظل السلم الموهوم.