في آذار 2008، خلال عهد جورج بوش الإبن، زار وكيل وزارة الدفاع الأميركية لشؤون السياسات إريك أدلمان لبنان وأعلن أنّ البنتاغون يرغب في شراكة استراتيجية مع الجيش اللبناني وتدعيم طاقاته، بحيث ينتفي عُذرُ «حزب الله» في حمل السلاح. لكنّ، رياح لبنان آنذاك جرت بما لا تشتهي السفن الأميركية.
 

فهل ينجح الجمهوري دونالد ترامب في عامه الأول حيث فشل بوش في عامه الأخير؟في الأسابيع الأخيرة، أبلغ الأميركيون الى لبنان أنّ أحد الشروط الأساسية لاستمرار تقديم مساعداتهم اللوجستية للجيش اللبناني هي أن يتولّى الحدود الشرقية وحده دون سواه.

ويقوم الأميركيون بمراقبة ميدانية دقيقة للمنطقة ومهمات الجيش هناك. وتبلّغ «حزب الله» هذا الشرط، فتجاوب معه رغبةً في إمرار العاصفة، وبقي مرابطاً ومترصّداً في مناطق نفوذه غير البعيدة.

وفيما ينتظر الجيش دعماً نوعياً بطائرات «سوبر توكانو» بدءاً من مطلع تشرين الأول المقبل، لتمكينه من تشديد قبضته على منطقة الحدود، في مواجهة «داعش» و»النصرة»، يبدو أنّ أحد الشروط الأميركية الأساسية لتسليم الجيش سلاحاً نوعياً هو التزام لبنان منع نفوذ «الحزب» هناك.

وهذا الضغط الأميركي على «الحزب» ليس سوى مقدمة لضغوط سياسية ومالية شديدة متوقعة. فإدارة ترامب لا تبدو متهاونة في خطتها الإقليمية الرامية إلى قضم النفوذ الإيراني، قطعة قطعة، وخصوصاً في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.

وفي 4 و5 أيار، عُقِد اجتماعٌ في وزارة المال الأميركية لـ»مجموعة التنسيق الأمني الدولية»، بهدف تشديد القبضة على مصادر تمويل «حزب الله». ويقود تجفيف مصادر التمويل إلى قضم نفوذ «الحزب»، خطوة خطوة، بما أمكن من مراعاة للخصوصية اللبنانية.

الأميركيون يأخذون في الاعتبار أنّ «حزب الله» يمثِّل شريحةً أساسية داخل الطائفة الشيعية، وأنّ له حلفاء بارزين في طائفته وطوائف أخرى، بعضهم أصدقاء لواشنطن أيضاً، وأنّ له نفوذاً لا يضاهيه أيُّ نفوذ آخر داخل معظم مفاصل الدولة الإدارية والأمنية والقضائية والمالية. ولذلك، لا يمكن إضعاف «الحزب» دفعة واحدة، وبين ليلة وضحاها، بل بسياسة «الخطوة خطوة».

في عهد أوباما، بدأت الإدارة الأميركية تنفيذ خطوات لم تتجاوز كوادر «حزب الله» والشبكات المحسوبة عليه، المتهمّة بتجاوزات مالية في لبنان وأفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية والولايات المحتدة.

وفرض الأميركيون على مدى العامَين الفائتين، عبر المؤسسات المالية الدولية، تشريعات صارمة أقرّها المجلس النيابي تضبط النشاط المصرفي في لبنان، بهدف منع دخول المال المشتبَه به إلى المصارف اللبنانية، وتالياً مصارف الولايات المتحدة والعالم.

في تلك المرحلة، لم يكن الهدف إضعاف «الحزب» كقوة سياسية، ولا حتى عسكرية، فيما كان أوباما يتوّج عهده باتفاق كبير مع إيران. وأما اليوم، فيريد ترامب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء مع إيران بإضعاف نفوذها الإقليمي، السياسي والعسكري. ويقتضي ذلك إضعاف «حزب الله». ولهذه الغاية، فكّ الترابط بين «الحزب» ومؤسسات الدولة اللبنانية.

بين إيران والولايات المتحدة، لا يمكن لبنان- واقعياً- إلّا أن ينحاز إلى الثانية. و»حزب الله» نفسه يدرك ذلك ويقدّر الحيثيات. فالأميركيون يسيطرون على نحو ثلثي الاقتصاد العالمي. وينهار الاقتصاد اللبناني تماماً، وخصوصاً القطاع المصرفي، إذا قرّر لبنان عزل نفسه عن الأميركيين أو الدخول في مواجهة معهم.

هذه المرّة، في التعديلات المقترَحة على قانون العقوبات الأميركي على «حزب الله»، الصادر في 2015، قد لا يستطيع لبنان أن يفعل شيئاً مُهِماً للمواجهة، سواء لجهة العقوبات المفروضة على مسؤولين رسميين ونواب من «حزب الله» وعدد من التنظيمات المتحالفة معه.

وقد يجد المعنيون، بمن فيهم الأكثر قدرة، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أنهم عاجزون عن كبح جماح العقوبات على المصارف التي ربما تتم تسميتها في لوائح العقوبات المقبلة. فمن نقاط قوة سلامة لدى الأميركيين أنه أعلن فوراً التزام لبنان مقتضيات قانون العقوبات. ولن يكون في مقدوره اليوم القيام بما يخالف ذلك، مهما كان قاسياً، ولو استهدف مؤسسات مصرفية معيّنة.

لكنّ المخاوف التي يعبّر عنها المشاركون في الوفود اللبنانية، النيابية والمصرفية، إلى الولايات المتحدة، تتجاوز العقوبات على «حزب الله» والمتعاونين معه، إلى ما تقدّمه الولايات المتحدة من مساعدات حيوية للبنان، لا يمكنه الاستغناء عنها.

وهذا ما يؤكده النائب باسم الشاب، الذي شارك في الوفد الأول. فللولايات المتحدة دور أساسي في دعم «اليونيفيل»، ولبنان يتلقى منها مئات الملايين من الدولارات سنوياً في شكل مساعدات عسكرية وتنموية، إضافة إلى 400 مليون دولار لملف النازحين. وهناك روابط حضارية عميقة، في مختلف النواحي والميادين، بين لبنان والولايات المتحدة ولا يتحمّل لبنان أن يخسرها.

يدرك «حزب الله» أنه مستهدَف. وهو يقدِّر تماماً وضعيّة كل طرف في التعاطي مع هذا الملف، ومقتنع بالحدود التي تملكها الدولة اللبنانية في مواجهة الضغوط الأميركية. فهو خبير جداً بهوامشها وهوامش كل طرف.

ولذلك، يريد أن يُقيم توازناً بين 3 عناصر:

1 - أن يبقى للقوى اللبنانية دورها في حمايته من الهجمة الجديدة.
2 - أن يحافظ على استقرار الدولة اللبنانية التي تؤمّن له التغطية.
3 - أن يمرِّر العاصفة بأقل مقدار من الأضرار، مراهناً على ترطيب العلاقات الأميركية - الإيرانية.

وميزة «حزب الله» أنه الأكثر دراية في رسم خطواته وتنفيذها. ولذلك، سيتجاوب مع متطلبات المرحلة، ولن يتحدّى الإندفاعة الأميركية الهائلة في الشرق الأوسط، والتي لا ينحني أمامها الإيرانيون وحلفاؤهم فحسب، بل أيضاً الروس والأتراك والإسرائيليون، انتظاراً لتبيان الملامح الجديدة للمواجهة.
البعض يعتقد أنّ «الحزب» قادر على الخروج من المأزق بتسليط الضوء مجدداً على الجنوب. لكنّ آخرين يحذّرون: ألا يكون ذلك «دعسة ناقصة»؟