لقد بات المجتمع مهددًا بعودة الحياة القبلية بالنظر إلى ما يحصل من تعديات ومخالفات تطال المواطن في أمنه واستقراره ولم تعد منطقة البقاع وحدها الضحية بل يتعدى ذلك إلى إنتشار هذه المشكلة الخطيرة على كامل الأراضي اللبنانية
 

في عصور الجاهلية ما قبل الإسلام كان الناس محكومين بنظام قبلي يقوم على جملة عادات وتقاليد وأعراف وموروثات قديمة توافق الناس على أنها تكون النظام الذي يحكم العلاقة فيما بينهم. إلا أن هذا النظام لم يكن ليمنع العشائر والقبائل العربية من غزو بعضها البعض لأسباب متنوعة فأحيانًا طلبا للثأر وفي غالب الأحيان طلبًا للمراعي لحلالهم ومجاري المياه والأراضي الخصبة. 
إذ أن أي قبيلة أو عشيرة تستشعر في نفسها القوة لم يكن ليردعها اي شيء من الإغارة على أي قبيلة أو عشيرة أخرى أضعف منها عددًا وعدة فتستبيح أرزاقها وتقتل رجالها وتسبي نسائها وأطفالها وشيوخها وتستولي على الإبل والخيل والماشية وتستوطن أرضها إذا رأت في ذلك مصلحة لها وما تنجلي الغبرة إلا على سيل من الدماء وأكوام من الجثث وطوابير من الأسرى. 

إقرأ أيضًا: حرب أميركية على داعش وحزب الله
ولم يكن للقبيلة جيش نظامي يتولى عملية الغزو والقتال سواء في الهجوم أو الدفاع فكل الرجال وكل من إستطاع امتشاق السيف فهو جندي في المعارك والحروب التي تدور رحاها امتثالًا لأوامر شيخ القبيلة وزعيمها الذي يمتلك وحده حرية إتخاذ القرار دون الخضوع لأية قواعد او حدود تحد من انسياقه وراء جبروته واطماعه وغطرسته وانانيته مع غياب أي رادع أخلاقي قد يجعله عرضة لتأنيب الضمير او خوف من آلهة السماء كما كانوا يعتقدون. وأيضا مع افتقاد المجتمع بأكمله إلى نظام يحدد طبيعة العلاقة بين القبائل فيما بينها وما لها من حقوق وما عليها من واجبات تجاه بعضها البعض سوى رزمة من الأخلاقيات التي لا تغني ولا تسمن من جوع والمعرضة للخرق في أي وقت كالكرم وحسن الضيافة وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وغيرها. 

إقرأ أيضًا: خيارات المواطن في ظل الفلتان الأمني
وكذلك لم يكن هناك قوانين يمكن يمكن أن تشكل مرجعية صالحة للاحتكام إليها لفض النزاعات والخلافات التي تنشأ بين القبائل وبالتالي فإن النظام القبلي العام كان يفتقد إلى مؤسسة قوية تفرض على الأطراف المتحاربة سطوتها وشروطًا للألتزام بها ما يعني أن المجتمع القبلي بكافة مكوناته كان يعيش بحالة إستنفار وأرباك وخوف من الآتي من الأيام. 
وما أشبه اليوم بالأمس بل ما أسوأ اليوم من ذلك العصر الجاهلي إذ أن ما تعيشه بعض المناطق اللبنانية وخاصة منطقة بعلبك الهرمل أكثر انحطاطًا وتخلفا وقساوة من ذلك العصر الذي ألف الإنسان خلاله حياة البداوة على رمال الصحراء القاحلة تحت أشعة الشمس الحارقة ولم يدخل إلى حياته غير السيف والترس والرمح وركوب الخيل لحروبه وتنقلاته، إذ أن ظروف الحياة القاسية كانت في الغالب تحول دون تطوير عقله وفكره الذي وقف عند حدود عمليات الثأر ووأد البنات وإستحلال أملاك الغير وارزاقه دون الخوف من المقدس في السماء أو من أي قوانين أرضية فتلاشى عنده عامل الضمير حتى غدًا القوي يأكل الضعيف دون وازع أخلاقي.

إقرأ أيضًا:  إيران من فوق غيرها من تحت
أما اليوم والعالم يطرق أبواب القرن الواحد والعشرين بكل تجلياته التقنية وتطوراته العلمية وبكل إكتشافاته ووسائل الراحة فيه من تكنولوجيا وانترنت التي حولت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة وحملت الإنسان وأوصلته إلى سطح القمر وهو في طريقه نحو المريخ وباقي الكواكب الأخرى وفي هذه القفزة العلمية من التطور والتقدم فإن المواطن من أبناء منطقة بعلبك الهرمل وفي ظل هذه الثورة العلمية التي اجتاحت العالم بأسره فإنه حولها إلى ثورة مسلحة للإعتداء على الغير بالتشبيح والتشليح وإمتهان كرامته، يساعده في ذلك مناخ عام من الفوضى والفلتان الأمني فرضته قوى الأمر الواقع التي إستغلت هيمنتها العسكرية وفرضت سطوتها ووسعت مناطق نفوذها وزادت مربعاتها الأمنية ونالت من هيبة الدولة لمصلحة الخارجين على القوانين والمطلوبين والملاحقين الذين وجدوا في هذه الأجواء مرتعًا للفوضى ومناسبة للاعتداء على الغير وممارسة عمليات السلب والنهب والقتل، ومنفذًا للهروب من القصاص والعقاب دون أن يردعه عن أفعاله الشنيعة أي خوف من الله او خوف من قانون للعقوبات، وهو بذلك فإنه يستعيد الحياة القبلية التي كانت سائدة في عصور الجاهلية ولكن بوسائل عصرية وحديثة ومتطورة الأمر الذي ساهم في إزدياد عمليات التعدي والإجرام. 
كل ذلك والدولة تقف بكافة أجهزتها السياسية والعسكرية والأمنية ومؤسساتها الدستورية عاجزة عن تطبيق القوانين التي تحمي المواطن وتزرع في نفسه عوامل الإطمئنان والإستقرار لتحل محل عوامل الخوف والقلق والارباك.