الشرق الاوسط الى مزيد من التقسيم
 

    بمناسبة انعقاد منتدى الدوحة مؤخرا حول منطقة الشرق الأوسط وأزماتها وعلى رأسها النازحين واللاجئين وربط الاستقرار بالتنمية يحسن فتح الباب واسعا لمناقشة مفهوم الشرق الأوسط كمنظومة ضعف، فمنذ زمن بعيد يأتي مفهوم الشرق الأوسط ليعبر عن حالة تصارعية، إنها منطقة تمثل عقدة استراتيجية، وباعتبارها الجيو- ستراتيجي، فإن الكثيرين مستهدفين مصالحهم فيها، هي محط أنظار وممر أقوام، وعلى هذا بدت هذه المنطقة تعاني من جملة من الأزمات والنكبات، حتى أننا صرنا نؤصل لأمر يتعلق بعلم النكبات، فها هي النكبة، وها هي النكبة مجددا، وتتوالى النكبات...

 

لا ندري لماذا ألحَّ علينا كيف أن "الأمة" حينما تحمل معنى الجامعية والقوة فهي "الأمة": "الأمة - الوسط"، وحينما تحمل معاني الضعف والاستضعاف فهي "الشرق- الأوسط" أو "المسألة الشرقية" أو "الشرق-الأوسط-الكبير".

إن حضور مفهوم "الأمة" يعني "الأَمّ " وهو القصد والوجهة، فالأمة محل القصد والقبلة والاتجاه. وحينما يبرز مفهوم جديد لا يُعنَى "بالأمة الوسط" وإنما "بالشرق الأوسط" مضافًا إليه صفة "الكبير"، فإنما يشير ذلك إلى معانٍ جغرافية، ويشير إلى أن مَن أطلق صفة "الكبير" (الولايات المتحدة) إنما يحدد عناصر اهتمامه هو ومجاله الحيوي فيما يعتبره يحقق مصالحه هو، ويحقق عناصر استراتيجيته الكونية في منطقة تعتبر عقدة استراتيجية، ولكن هذا يحوّل الأمة من قَصْدٍ، ومن بشرٍ قاصد، ومن مقصود وفكرة ورسالة، إلى "مكان" مُصمَتٍ يراه الخارجُ كيفما شاء وكيفما تصور، وكأنه مساحة خالية من البشر الفاعل أو الفكرة الجامعة، إنه –بهذا- مجال للفك والتركيب وإعادة التشكيل وهندسة المنطقة في إطار تتحكم فيه "هندسة الإذعان".

يبدو أن هذه الملاحظة المسكونة بمفهوم "الشرق" ظلت تلازم نوعين من الكتابات:

نوع أول تمثله كتابات "الاستشراق/الغربي والأمريكي" التي برزت بشكل مبكر، ثم لازالت تتماثل وتتكشف للعيان بأبعادها المابعد معرفية وغاياتها المابعد علمية. إن هذه الكتابات لعبت دور الممهِّد المعرفي والعلمي لمشاريع الاستعمار قديمها وجديدها، وفي هذا يشكك إدوارد سعيد: "في قدرة إنجلترا على احتلال مصر بمثل هذه الطريقة المؤسسة جيدا وتلك المدة الطويلة التي احتلتها لولا ذلك الاستثمار المكين في الدراسات الشرقية"، ومن هذه الخلفية يشير مصطفى عبد الرازق -في دراسته هنا- إلى أن المشروع الذي طُرح مؤخرًا من خلال إدارة بوش الابن بشأن "الشرق الأوسط الكبير"؛ لم ينشأ من فراغ، وأنه إذا كان قد اكتسب ملامحه التي تم طرحه من خلالها على أساس من التطورات التي يحياها عالمنا المعاصر -سواء على مستوى المنطقة أو على مستوى تفاعلات النظام الدولي- إلا أنه يجد جذوره في عدد من الأصول الاستشراقية عبر عنها بعض المستشرقين؛ وعلى رأسهم برنارد لويس. بالطبع ليس لويس وحده، وليس هو المحرك الوحيد لكل المسألة، إلا أنه يقدم نموذجًا مثاليًا على هذا الحلف غير المقدس.

وهذا يكشف -من ناحية أخرى- عن أن ميدان دراسات الشرق الأوسط (أو بالأحرى: ميدان دراسات العالم الإسلامي) في الغرب؛ إنما يقع تحت هيمنة اللوبي الصهيوني، في توافق تام مع التأثير الصهيوني على الإعلام الأمريكي، الذي يصوغ وعي الرأي العام هناك، ويؤثر على فهمه لنا تأثيرًا سلبيًا، ويستدر تأييدهم للسياسات العدوانية ضدنا لمصالح الصهيونية. اليمين الديني المحافظ كان إذًا مسبوقًا باليمين الاستشراقي الفكري والبحثي.

هذا نوع أول، ولكن ثمة نوعًا آخر من الكتابات يهتم برصد شأن العلاقات بين "شرق" و"غرب" من دائرة أخرى تحرك الوعي وتستثير السعي في هذا المضمار المهم، هذا النوع له نماذج عديدة يمكن الإشارة منها إلى الدكتور جورج قرم؛ وهو يحتل موقعًا مميزًا بين الباحثين الذين تناولوا موضع العلاقة التاريخية بين أوروبا والشرق، وأصدر عددًا من الكتب التي تلامس هذا الموضوع بشكل أو بآخر مثل كتابه الشهير "انفجار المشرق العربي" الذي صدر قبل عشرين عامًا وطبع بالعربية والفرنسية أكثر من مرة، وكتابة الجديد "شرق وغرب: الشرخ الأسطوري" الذي صدر مترجمًا بالعربية في العام 2003.

إن هذا الاهتمام النظري والبحث في الخبرات التي تشكلها العلاقة بين شرق وغرب، والاقتراب من الوضع القائم الآن الذي يأخذ فيه "الشرق" دلالة جديدة إثر تأكد "الهيمنة الأمريكية" على المستوى العالمي، وتفرد القطب الأوحد في المنظومة الدولية، والإمبراطورية الكونية الأمريكية، والتي تعيد تعريف قضايا كثيرة بما في ذلك ما يُدعى "الشرق". ورغم أن "قرم" أصدر كتابه الأخير والحرب على العراق قد دقت طبولها، وقبل سقوط بغداد؛ إلا أن هذا الاهتمام النظري امتلك منطق البرهنة الواقعية على الأرض، ولم يجد أي صعوبة كي يبرهن على أن "...الشرق في المخيلة الأمريكية مرتبط بالإدارة السياسية ورجال الإعلام والمتنفذين من الأكاديميين، أكثر مما هو مرتبط بواقع الشرق الفعلي..."، فالولايات المتحدة "تخترع الشرق الذي تريد"، آخذة في الاعتبار "مصالحها والفضاء المحتمل لمناوراتها السياسية المستقبلية":

لقد أدى خطاب الغرب المتعصب عن نفسه إلى تعيين ذاته رسولاً لهداية الشرقيين الضالين، إلى درجة يحتفل فيها الغربيون اليوم والولايات المتحدة بشكل خاص "بعودة الله"، ذلك أن القومية الأمريكية تمتد بجذورها إلى البروتستانتية والعهد القديم. وسواء كشف الغرب عن تمسكه بالدين أو عن التحرر منه، فإنه أنتج في الحالتين معًا دينًا خاصًا به هو "دين القوة" الذي يجعل من الغرب عالمـًا "مقدَّسًا"، ومن الشرق عالمًا غريبًا عن القداسة ومفعمًا بالآثام. وظهر دين القوة هذا -الذي أوكل إلى الولايات المتحدة الدفاع عن المقدسات الغربية- بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من أيلول؛ حيث قبلت الأيدلوجيات العلمانية الغربية بالمزاعم والسياسات الأمريكية: الهدف مقدَّس، والوسائل علمانية.

عزز من هذه الرؤية "النصرُ الأمريكي في الحرب الباردة": "فوكاياما ونهاية التاريخ"، الذي جعل من غرب النهضة الأوروبية غربًا يهوديًا/مسيحيًا، صورته المركبة هي دولة إسرائيل، التي لا تسمح لها "غربيتها" بأن توصم بأنها دولة عنصرية أو عدوانية؛ فهي من الغرب ولها دور الغرب في هداية العالم الضالّ. في هذا الانقلاب تصالَحَ التاريخُ العلماني والتاريخ الديني للغرب، وأصبح "الآخر" هو المسلم المكروه، وأصبح الغرب يتعامل مع الإسلام بصفته عقيدة كلية متصلبة، تنضح عنفًا، وتتنفس لاعقلانية كاملة.

وربما كان في التاريخ خبر وعِبَر، وتجارب وآيات، وشواهد وبراهين، تثبت مثل هذه الحقائق أو تعمق من دلالاتها.
 
     وتسمى المنطقة بهذا الاعتبار منطقة الأزمات، ولم يتساءل أحد أهي بحق منطقة أزمات أم مساحات لتصنيع الأزمات، وفي هذه المنطقة دشنت مشروعات كثيرة تدافعت وتصارعت، وأراد البعض منها أن تتفكك في إطار تقسيم المقسم، وتفتيت المفتت، وبدت المشروعات تسير في هذا الطريق، وصارت المنطقة مصدرا للخطر، وتصدر المخاطر، فهؤلاء لاجئون، وفي هذه المنطقة إرهابيون، وتعتمل فيها كل العوامل التي تتعلق بالطائفية والطيفنة فهم طائفيون.

     هكذا تبدو المنطقة أو هي صناعة الصورة بصددها، فماذا نحن فاعلون؟، الكل في المنطقة يحدد مصالحه ثم يتخذ من السياسات ما يحافظ على تلك المصالح واستمراريتها، وفي ذات الوقت لم يقم أهل المنطقة ودولها بالعمل الواجب بتحديد المصالح والتعامل مع القضايا، فصار كل هؤلاء وفي كل الأحوال مفعول بهم أو يكاد، وفشلوا من كل طريق أن يكونوا مفعولا لأجله، فهل يمكن بالفعل أن تشكل المنطقة حال استقرار بعد تأشيرات الانكسار والفوران والثورات، إن لذلك شروطا، ولكن لازالت المشاريع تتصارع وغالب أهل المنطقة يفتقدون المشروع.

    هذه هي الأزمة الحقيقية لأن استقرار المنطقة واستمرار الاستقرار ليس بأيدي أهلها ولكنه بأيدي غيرها، صحيح أن العالم بتفاعلاته لم يعد الأمر الذي يتعلق بالتمييز بين داخل وخارج هو الأمر الصحيح، ولكن مهما كان للخارج سطوته فإن الداخل هو الذي يمكن له، فهل يمكن أن نتصور أن تكون هناك رؤية ضمن مشروع لكل هذه القضايا ويبحث عن متطلبات الاستقرار، أم أن التفكيك هو مصير المنطقة ومزيد من التفتيت؟.