هذا ما هو إلاّ غيضٌ من فيض في كيفية استعمال الآيات القرآنية واستغلالها
 

لطالما كانت الجماعات الأصولية المتطرفة تبرّر جرائمها ومخازيها بالعودة إلى النصّ المقدّس، وتجد في القرآن الكريم خير مرجع ،حيث يتم إنتقاء الآيات المناسبة، بعد قطعها من سياقها، وتأويلها بما يخدم أغراضها السياسية الدنيوية بعد تغليفها بالهيبة المقدسة وإسنادها بالأحاديث الملائمة.

إقرأ أيضا : علم لا ينفع

أولاً: نسخ القرآن بالسُّنّة 

ينقل السيوطي نبذة عن آختلاف العلماء في هذا الشأن، فيقول: "فقيل لا يُنسخُ القرآن إلاّ بقرآن، ويستند على قوله تعالى: " ما ننسخ من آيةٍ أو نُنسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها"، ولا يكون القرآن وخيراً منه إلاّ قرآن، وقيل بل يُنسخُ القرآن بالسّنّة لأنها أيضاً من عند الله، ويعود إلى نص قرآني آخر، قال الله تعالى: "وما ينطق عن الهوى. وهذا ما إستند إليه شكري مصطفى (مؤسس جماعة التكفير والهجرة في مصر) عندما ظنّت الهيئة التي حاكمته أنّها أحرجته حين سألته عن قوله "بنسخ السّنّة للقرآن" فقال : نعم، فالرسول لا ينطق لسانه إلاّ بوحيٍ من ربّه ، ولو أخطأ لوجب أن يُواليه الوحي بالتصحيح، ولم يفتقر الداعية الاصولي المذكور لآيات قرآنية يُؤيّد بها رأيه، فالرسول لم يكن"  ينطق عن الهوى ، إن هو إلاّ وحيٌ يوحى"( النجم،٣) ،"ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين" (الحاقّة،٤٤)، "وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ ليُطاع بإذن الله"(النساء،٦٤) .

إقرأ أيضا : صمت الأخيار مصدر قوة للأشرار

ثانياً: استعمال الآيات لدعم رأي أو دحض حُجّة

كان أحمد بن يوسف الكاتب قد تولّى صدقات البصرة للخليفة المأمون، فجار فيها وظلم، فكثُرت الشكاوى والدعاوى عليه، فعزله المأمون، واجتمع خمسون رجلاً من البصرة لمناظرته بحضور الخليفة، فلجأ للقرآن ،وقال : يا أمير المؤمنين، لو أنّ أحداً ممّن ولي الصدقات سلم من الناس، لسلم رسول الله(ص) ،قال الله عزّ وجلّ: "ومنهم من يلمزُك في الصدقات، فإن أُعطوا منه رضوا، وإن لم يُعطوا منها إذا هم يسخطون". فأعجب المأمون جوابُه، واستجزل مقاله، وخلّى سبيله.
وقال أبو العيناء: قلتُ لأحمد بن أبي داود: إنّ قوماً تظافروا عليّ! قال: "يدُ الله فوق أيديهم"، قلتُ: إنّهم عددٌ وأنا واحد! قال:" كم من فئةٍ قليلة غلبت فئة كثيرة" ،قلت، إنّ للقوم مكراً،قال:" ولا يحيق المكر السّيىء إلاّ بأهله" ،قال أبو العيناء: فحدثت بهذا الحديث أحمد بن يوسف الكاتب، فقال: ما يرى ابن أبي داود إلاّ أنّ القرآن نزل عليه.
وأُتي الحجّاج بحرورية (الحرورية فرقة خارجية) فقال لأصحابه: ما تقولون في هذه؟ فقالوا : اقتلها، ونكّل بها غيرها، فتبسّمت الحرورية، فقال لها، لم تبسّمت؟ فقالت: لقد كان وزراء أخيك فرعون خيرٌ من وزرائك يا حجّاج، استشارهم في قتل موسى، فقالوا: أرجه وأخاه، وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي، فضحك الحجاج وأمر بإطلاقها.

إقرأ أيضا : خذوا الحكمة ولو من ابن الثمانين

ثالثاً : مُقارعة الآيات ببعضها

عندما وُضع رأسُ الحسين بن علي بين يدي يزيد، تمثّل بقول الحصين بن الحمام المري:
يُفلّقن هاماً من رجالٍ أعزّةٍ 
علينا وهم كانوا أعق وأظلما.
فقال له عليُّ بن الحسين، وكان في السّبي، كتاب الله أولى بك من الشعر، يقول الله: "ما أصاب من مصيبة في الأرض وفي أنفسكم إلاّ في كتابٍ من قبل أن نبرأها ،إنّ ذلك على الله يسير، لكي لا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يُحبّ كلّ مختالٍ فخور". فغضب يزيد وجعل يعبث بلحيته، ثم قال: غير هذا من كتاب الله أولى بك وبأبيك، قال الله: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير".
ومن أبرز تلك المحاجّات والمقارعات ما كانت تجري بين جماعات الخوارج، فكانوا يحتكمون للآيات القرآنية، فيُحمّلونها ما تحتمل وما لا تحتمل.
ومن فرق الخوارج العديدة فرقة "الصُّفرية" ،وقيل : نهكتهم العبادة فاصّفرّت وجوههم، وكانوا يذهبون إلى القعود عن القتال، لما فيه من سفك دماء وهتك حرُمات،فكتب أحد قادتهم، واسمه نجدة إلى نافع بن الأزرق لمّا بلغه عنه استعراضه للناس وقتلُه الأطفال واستحلالُه الأمانة، حيث يخاطبه: وكيف غويت وأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم، فقال جلّ ثناؤه:" ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرجٌ إذا نصحوا للّه ورسوله"، ثم سمّاهم أحسن الأسماء، فقال: "ما على المحسنين من سبيل"، ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله عن قتلهم، وقال جلّ ثناؤه:" ولا تزرُ وازرةٌ وزر أخرى"، ورأيت من رأيك أن لا تُؤدي الأمانة إلى من يخالفك،والله يأمرك أن تؤدي الأمانات إلى أهلها.

إقرأ أيضا : محاولة لإصلاح الفكر الديني
فكتب إليه نافع بن الأزرق، مستنداً هو الآخر على آيات قرآنية ليُقارع بها نجدة الصّفري القاعد عن القتال، فيُذكّره بأنّ القعد اليوم هم غير القعد الذين كانوا أيام الرسول في مكة مقهورين محصورين، فهم (أيام نافع) حسب اجتهاده، قد فقهوا الدين ، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح، وقال الله فيهم " إنّ الذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم، قالوا كنّا مُستضعفين في الأرض، قالو ألم تكن أرض الله واسعة فتُهاجروا فيها"، وقال: "فرح المخلّفون بمقعدهم خلاف رسول الله"، وقال: "وجاء المعذّرون من الاعراب ليؤذن لهم، وقعد الذين كذبوا الله ورسوله، سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم" ، فانظر إلى أسمائهم وسماتهم، يقول نافع.

إقرأ أيضا : لمن يحرم الإستعانة بالأميركي هل يجوز له الإستعانة بالروسي؟
وأمّا أمر الأطفال فإنّ نبي الله نوحاً عليه السلام كان أعرف بالله يا نجدة منّي ومنك، فقال: ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا، إنّك إن تذرهم يُضلّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّارا "، فسمّاهم بالكفر وهم اطفال وقبل أن يولدوا: فكيف جاز ذلك في قوم نوح ولا يجوز في قومنا والله يقول" اكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءةٌ في الزُّبُر"، وهؤلاء كمشركي العرب، لا تُقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلاّ السيف أو الإسلام.
وأمّا استحلال الأمانات ممن خالفنا فإنّ الله عزّ وجل أحلّ لنا أموالهم كما أحلّ لنا دماءهم، فاتق الله وراجع نفسك، فإنّه لا عذر لك إلاّ بالتوبة، والسلام على من أقرّ بالحقّ وعمل به.
وهذا ما هو إلاّ غيضٌ من فيض في كيفية استعمال الآيات القرآنية واستغلالها.