ليس فقط الشعب الفرنسي من حبس أنفاسه بانتظار إعلان اسم الفائز بإنتخابات رئاسة فرنسا، بل العالم أجمع، ولو أن السرعة القياسية باعلان النتائج بعد إقفال صناديق الإقتراع خففت من وطأة لحظات الإنتظار.
 

إنه الشاب الفرنسي إيمانويل ماكرون الآتي من خارج الإصطفافات الحزبية التقليدية، الذي لا يمتلك قاعدة ناخبة باستثناء بضعة آلاف"ماكروني" هم أعضاء حركة "إلى الأمام" التي أسّسها قبل عامٍ واحدٍ فقط، تمكّن من الإنقلاب على معادلة اليمين واليسار المعتادة في فرنسا، ليصبح أصغر ٍرئيسٍ في تاريخ الجمهورية الخامسة، في انتخابات وُصفت بالمعركة العالمية.

استطلاعات الرأي التي سبقت الأحد الفرنسي الكبير أتت منسجمةً مع النتائج، وإن بنسبٍ متفاوتة، وعلى رغم فضيحة رسائل البريد الإلكتروني المسرّبة من حملة ماكرون، استطاع تحقيق فوز بفارقٍ كبيرٍ عن منافسته. واستناداً إلى قراءة عددٍ من المراقبين، يمكن استخلاص الأسباب الكامنة وراء وصول ماكرون إلى قصر الإليزية بجملة عناوين:

- كان للمناظرة الأخيرة قبل أيام من الجولة الثانية بين المتنافسيَن، الفضل الكبير في نجاح ماكرون، بحيت بدا مقنعاً أكثر من منافسته التي كشفت عن عصبيتها ونقدها غير البنّاء، وذلك وفقاً لإستطلاع أجراه معهد أبحاث إيلاب بتكليف من قناة TV BFMTV ، "تقدم ماكرون بأشواطٍ خلال المناظرة التلفزيونية، 63 % من مشاهدي المناظرة أعطوا الأفضلية لماكرون مقابل 34 % للوبان". فيما أحصت الصحف الفرنسية لاسيّما صحيفة "لوموند" تسع عشرة كذبةً تفوهت بها لوبان، وخصصت الصحيفة المانشيت لـما سمّته "استراتيجية الكذب"، فيما وصفت "ليبراسيون" مرشحة اليمين بالسامة: "بدت بالشكل حاقدة وبالعمق ضعيفة ومفتقرة لأيّ مشروعٍ حقيقي". وعزز أداء لوبان خلال المناظرة مخاوف شريحة كبيرة من الفرنسيين لاسيّما فيما يتعلق بالإنفصال عن أوروبا وعدم امتلاك رؤية اقتصادية.

- توق الفرنسيين لوجهٍ جديدٍ، وخيبة أملهم الكبيرة من أداء اليمين واليسار، وتلاقي هذه الخيبة مع استراتيجية تسويقية ذكية أعدها ماكرون في حملته، متعهّداً بالتغيير.

- تمتّع ماكرون بمزايا وصفات شخصية وقدرات خطابية تضامنت مع تقنيات التسويق السياسي ولغة الجسد، وقدّمت للفرنسيين صورة رئيس شاب واثق هادىء طموح ويمتلك مشروعاً خاصاً به. ماكرون الذي يستشهد بمقاطع من شعراء في خطاباته وصفه منافسه اليميني فرنسوا فيون بـ "المرشد الروحي". وفي إشارة إلى دور التسويق السياسي في صنع صورة ماكرون علق مدرّس مادة التسويق السياسي في عمادة كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية الدكتور روي جريجيري على صفحته على الفيسبوك "أرى فيه نتاجاً للتسويق السياسي في أقصى تجلياته : السياسة مسرح، على خشبته نجم شبّاك تذاكر، حفظ نصّه جيداً، تمرن على أداء الحركات الجسدية المتلائمة مع النص، مع الإيقاع المناسب واللهجة المناسبة. وما همّها الجماهير إذا كان المستوى الفني ضعيفاً!".

- السجل النظيف لماكرون وخبرته العملية التي كونها من خلال المراكز التي تولاها في إدارات الدولة .

- خوف الفرنسيين والمؤسسات المالية والمصرفية ومستثمري أسواق المال من المصير المجهول لإقتصاد بلدهم، فيما لو تمّ الإنفصال عن الإتحاد الأوروبي وفق سياسة لوبان، وهو ما أطلق عليه عدد من رجال الإقتصاد "سيناريو الرعب" فيما لو فازت لوبان، وكمؤشر على طمأنة أوروبا لوحدتها ارتفع اليورو إلى أعلى مستوى له مقابل الدولار خلال عام، بعد اعلان النتائج .

- التصدّي لخطر اليمين المتطرف على القيم والمبادىء التي ميزت الجمهورية الفرنسية.

- تصويت مسلمي فرنسا لصالح ماكرون خوفاً من خطر لوبان على وجودهم.

- إحاطة ماكرون بكوكبة من الشخصيات شاركت بطريقة أو بأخرى في صعوده استناداً إلى ما ورد في صحيفة لوفيغارو، بحيت سألت الصحيفة: "كيف يمكن لوزير الإقتصاد السابق أن يصل إلى الجولة الثانية دون أن يكون منتخباً من قبل؟ لتجيب أنّ تلك الشخصيات آمنت به، وهي تتنوع بين سياسيين مخضرمين أمثال جيرار كولوب وفرنسوا بايرو وجان إيف لودريان، وتكنوقراط واقتصاديين أمثال جاك اتالي.

- تصويت نسبة من مناصري اليمين واليسار لماكرون بعد فشل مرشحيهم من الفوز في الجولة الأولى .

- وللصورة الذهنية التي قدّمتها لوبان عن نفسها كامرأة متشددة وغير مرنة دور في فوز ماكرون .

وهكذا جذب ماكرون الشباب الفرنسي من خلال خطابه الداعي إلى الإعتدال وتجاوز الإنقسامات بين اليمين واليسار، ليصبح أول مرشح بلا حزب وبلا تجربة انتخابية سابقة يفوز برئاسة فرنسا، ويطمئن ليس فقط أوروبا ووحدتها بل العالم المعتدل .

نوال  الأشقر