هل أعاد ميشال عون في سنة حكمه الأولى بعضاً من «حقوق المسيحيين» المهدورة في الجمهورية اللبنانية الثانية؟
أن تُستبق الإجابة عن هذا السؤال بحقيقة أن مشكلة المسيحيين اللبنانيين أكثر جوهرية من مسألة حقوق سياسية أو طائفية، فهذا يساعد على تمرير إجابة لا ترضي خصوم عون، ذاك أن الوظيفة السياسية والاجتماعية لهذه الجماعة أصيبت بتغيير لا يتصل بقدراتها الذاتية، إنما بتحول عالمي في العلاقة مع المنطقة، ومع مكوناتها، ناهيك عن الانتكاسة الديموغرافية التي أحالت المسيحيين في لبنان إلى شريك مثالث بعد أن كان مناصفاً.
عون أعاد لموقع الرئاسة مقداراً من التأثير في العلاقات الداخلية بين الجماعات اللبنانية، وربما الأصح أنه أعاد للمسيحيين شيئاً من هذا القبيل! ويجب أن يُقال ذلك في صيغة «اعتراف»، ذاك أننا أمضينا العقد الأخير ونحن نكتب عن ارتهان الرجل لـ «حزب الله»، وعن عجزه عن تمثيل «طموحات المسيحيين».
نعم، صار المسيحيون اللبنانيون في ظل رئاسة ميشال عون شريكاً أكثر فاعلية. والرجل ضم تحت جناحه أكثر قواهم تمثيلاً، ولم يبق خارج عباءة الرئاسة منهم سوى سليمان فرنجية. وهو، أي عون، كشف عن قدرات في إدارة المصالح ومفاوضة الجماعات الأخرى لم يسبق أن تصورها خصومه. ووصل الأمر برئيس الحكومة سعد الحريري أن شكره لإتاحته له فرصة ترؤس جلسة مجلس الوزراء، ناهيك عن تحوله عبئاً يومياً على مساعي رئيس مجلس النواب نبيه بري في إدارة دفة مشاريع القوانين، وتحديد شكل المحاصصات والشراكات. وحتى «حزب الله» لم يبق بمنأى عن طموحات حليفه الأصغر، فقد كشفت المداولات حول قانون الانتخاب، بأن عون لا يعطي من دون مقابل، وهو يريد ثمناً لالتحاقه، ومشروعُ قانون الانتخاب المذهل والمُعبر عن انعزالية غير مسبوقة الذي اقترحه جبران باسيل هو الثمن الذي يريد أن يفاوض عليه الحزب.
صحيح أن الثمن زهيد قياساً بما أعطى عون الحزب، فهو يريد حصة أكبر في المجلس النيابي مقابل إعطائه السيادة، إلا أن الحزب كان أخذ السيادة في عهود ما بعد الطائف من دون أن يعطي شيئاً في مقابلها.
الأرجح أن الخلل ليس في الاعتراف لعون بتحقيقه موقعاً متقدماً للمسيحيين في المحاصصة اللبنانية، إنما في التحول الذي طرأ على «طموحات المسيحيين» عبر تحولهم من جماعة تمكنت في الجمهورية الأولى من تقديم نموذج متقدم في الحكم وفي الاقتصاد وفي التعليم وفي الحريات العامة، إلى جماعة متماهية مع الجماعات الأخرى في الفساد وفي المحاصصة وفي الانعزال، بل أن القابلية المسيحية للانعزال بدت أكبر من غيرها من قابليات الجماعات الأخرى، فهي جاءت مشحونة بـ «مخاوف الأقليات» وبشعورها بالاستهداف والذواء والهجرة.
من سبق أن راهن على استعادة المسيحيين اللبنانيين موقعاً في الحياة العامة في لبنان، يساعد على استئناف تقدم كان باشره لبنان في مؤشراته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية خلال مرحلة حكم المسيحيين في الجمهورية الأولى، عليه أن يعيد النظر في توقعاته. فعون أعاد للمسيحيين بعضاً من «حقوقهم»، لكنها حقوق المحاصصة، مضافاً إليها الحق في التعبير عن الرغبة في الانعزال لا في التقدم. وما لا يستطيع عون إعادته، وهو لا يرغب في إعادته أصلاً، هو قيادة المسيحيين لنموذج مختلف في الحكم يشمل طموحات في استئناف الصدارة اللبنانية.
يحمل مشروع قانون باسيل (صهر رئيس الجمهورية ووزير خارجيته) هذه الردة تماماً. فبالإضافة إلى أنه، أي القانون، يريد للمسيحيين أن ينتخبوا المسيحيين، لا ينطوي على طموح في الفوز بنائب مسلم واحد. بينما كانت للقوى المسيحية في الجمهورية الأولى طموحات مختلفة، فكميل شمعون كان لديه مرشحون شيعة في صور وسنة في إقليم الخروب ودروز في الشوف، وهؤلاء شكلوا بؤراً لـ «المارونية السياسية»، من جهة كانت بؤراً ارتزاقية لكنها مثلت من جهة أخرى طموحات في اختراق الجماعات الأخرى ورغبة في الاستثمار فيها.
على خصوم عون أن يعترفوا للرجل بقدرات كانوا شككوا فيها. لكن هذا الاعتراف يجب أن يُشفع باستنتاج مأسوي يتمثل في أن المسيحيين فقدوا قدرتهم على تقديم نموذج مختلف على نحو ما سبق أن فعلوا في الجمهورية الأولى. المسيحيون صاروا جزءاً من نموذج التخلف الذي تتخبط به الجماعات الأهلية في منطقتنا.