استضاف منتدى الأربعاء في مؤسسة الإمام الحكيم  أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الباحث والكاتب الدكتور وجيه قانصو في لقاء حواري تحت عنوان: "قراءة منهجية حول نشوء المذاهب الإسلامية" بحضور حشد من الشخصيات الدينية والسياسية والدبلوماسية والأكاديمية والإعلامية..

قدّم اللقاء وأداره المحامي الأستاذ بلال الحسيني..

ثم تحدث بعده الدكتور قانصو معتبراً بأن موضوع الندوة صدى لكتاب أصدره مؤخراً بعنوان "الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ: دراسة في مراحل التكوين الأولى".. حيث قدم فيه مقاربة مختلفة لمذهب الشيعة الإمامية عن المقاربات السائدة.. مشيراً إلى أنه سيعتمد الطريقة نفسها في طرح مقاربة مختلفة حول المذاهب الإسلامية، الأمر الذي يشكل تحدياً في أن يكون هذا المنهج صالحاً لاعتباره طريقة وآلية مختلفة لفهم المذاهب الإسلامية بشكلٍ عام وبالتالي يمكن تطبيقه في أماكن أخرى.. 

ثم انطلق الدكتور قانصو في الحديث عن موضوع الندوة، متوقفاً عند بعض المفردات التي وردت في العنوان.. ومنها كلمة "نشوء"، موضحاً بأنها تعني العودة إلى التاريخ، لا العودة إلى قراءة ظاهرة في تزامنها وحالتها المركبة المنجزة الخالصة بالطريقة التي نتلاقاها في زمننا الحاضر.. 

          أما كلمة "منهج" من حيث بديهية الفكرة ـ لا من حيث معناها الفلسفي ـ فإنها تعني العدة الذهنية التي يعتمدها الإنسان والباحث لفهم ظاهرة معينة، وفيها لايستند الباحث إلى نتائج مسبقة بل على بناء فرضية معينة قد وضعها الباحث كي تساعده في قراءة ظاهرة معينة.. 

          وأشار الدكتور قانصو إلى أن البحث يجب يستند إلى قاعدتين:

          الأولى، "التعليق الظاهرتي" والتي ترى بأن الوصول إلى  البداهة أو اليقين يقتضي تعليق كل الأحكام.. الأمر الذي يجعل جميع الاحتمالات مفتوحة أمام الباحث، لتضعه أمام احتمال مشروع وهو أن تكون الظاهرة التي يتولى دراستها خلافاً للطبيعة أو الصورة التي كان يؤمن بها..

          الثانية، أن يكون النمط البحثي فيه شيء من "النزعة الديكارتية" التي تمكن الباحث السيطرة على موضوع البحث وليس العكس، ليكون منتجاً للأفكار والمفاهيم أو يعلو فوق المفاهيم السائدة وبالتالي يمكنه تفصحها أو انتقادها..

          وتناول الدكتور قانصو الجوانب المتعلقة بظاهرة نشوء المذاهب الإسلامية، مشيراً إلى أنها تتميز بثلاثة جوانب:

          الجانب الأول، أنها ظاهرة في غاية التعقيد والتركيب استغرق تكوينها وتشكلها عبر التاريخ امتداداً زمنياً طويلاً لتكتمل في القرن الخامس وقد أخذ نشوؤها ثلاثة أبعاد:

          الأول، العقلاني.. أي تأسيس مبانٍ عقلية لفهم الدين والنصوص الدينية.. ولا بد من عقلنة المعتقدات السابقة وانتماءات معينة لم تجد بعد تحديدياً واضحاً..

          الثاني، الانتظام الاجتماعي أو الهرمية الاجتماعية.. أي يكون هناك جماعة محترفون يطلق عليهم "علماء" مختصون بعلم الفقه، علم الكلام والرواية بحيث يكون هناك عالِم ومُعَلم، مُقلَد ومُقلِد..

          الثالث، النظام الطقسي أو الشعائري والذي يأخذ أشكال عبادة معينة.. ونلاحظ أنه بقدر ما حرصت المذاهب على هذا البناء، كان لديها خصوصية وتمايز عن المذاهب الأخرى..

          الجانب الثاني، أنها ظاهرة ممتدة بالزمن في حالة صيرورة.. أي أنها ليست حدث، إنما مراحل..

          الجانب الثالث، أن المذاهب نتاج تفاعل مع محيط واسع، نتاج الـأنا" والآخر معاً، حيث ثمة ذهنية مشتركة تقف عليها كل المذاهب.. وعدم الالتفات إلى هذه الذهنية والأعماق المحركة والمحددة للأفكار التي تطفو على السطح، تجعلنا لا نتمكن من التقاط المشهد وحقيقة الأحداث ومحراكتها الحقيقية والبناءات الأسياسية التي تقوم عليها أفكار المذاهب.. 

          وأكمل حديثه قائلاً: لا بد من المنهج البحثي أن ينتقل من البحث عن صحة معتقد معين ما إلى البحث في شروط الإمكان لنشوء هذا المذهب.. أي البحث حول العوامل والظروف والشروط التاريخية والاعتبارات السياسية والثقافية والاقتصادية التي تسببت بظهور هذه الظاهرة مع غض النظر عن المنطق الداخلي لها أو منطق الصحة أو الخطأ، الضلال أو الهداية.. 

          إلا أن البحث عن شروط الإمكان يحده عدة عوامل ومنها:

          أولاً أنها تعد طرحاً جديداً في مسار المعرفة البشرية والتي بدأت في القرن التاسع عشر لتتطور في القرن العشرين..  

          ثانياً، أن المعرفة البشرية كانت تطرح في العقل اليوناني ضمن إطار منطقي، بأن ثمة آلة لدى الإنسان ألا وهي المنطق" وإذا ما استعملها فإنها تعصمه عن الخطئ.. 

          ثالثاً، أن المعرفة البشرية قد أُضيف لها بُعداً جديد في الدائرة الدينية الإسلامية، أ ألا وهو النية الصالحة والخبيثة.. والتي ترى بأن المشكلة لا تعود إلى المنطق والتفكير الخاطئ..إنما تعود إلى أنه ثمة كيد وخبث وحقد على الإسلام.. وهذا هو نمط التفكير والعقلية المنتشرة بشكل عام في قراءة المذاهب الأخرى، والتي تتحرك في منطقة خُبث النوايا والحقد..

          

          ثم انتقل الدكتور قانصو للحديث عن كيفية فهم "ظاهرة نشوء المذاهب" والعقبات التي تعترضها وهي:

          العقبة الأولى، الفاصل الزمني الذي يقف دائماً بين زمانين الماضي والحاضر.. بأن كيف يمكن من ينتمي إلى زمن أن يفهم ظروف زمن آخر؟.. وقد وضعت 3 مقترحات لهذه العقبة، وهي المنحى التأويلي التي ترى بإمكانية استعادة التجربة التاريخية وتقمصها وبالتالي فهمها وتبين فيما بعد أنه كلام غير واقعي أبداً، بل هناك استحالة عقلية لأن يعود الإنسان إلى زمن آخر..

          المقترح الآخر المباحث البنوية والتي ترى بأننا لن نستطيع التمثل بذلك الزمان، لكن إذا ما تلقينا وثائق ذلك الزمان وكل المعطيات حوله فإنه بإمكانية فهم التجربة التاريخية من خلال التحليل والفهم لمعطيات ووثائق ذلك الزمان.. وقد بُذلت جهود كثيرة لكنها لا تزال غير كافية وقاصرة جداً في حساب الاعتبارات الزمنية..  

          أما الاقتراح الثالث، ثمة منهج لـ"ماكس فيبر" وقد حاول فيه تقديم نموذج اجتماعي، بأنه إذا ما تمكنا من التعرف على آيديولوجية عصر من العصور، فإننا سوف نتعرف على فضائاته وبالتالي فهم الممكن والـ"لاممكن" في ذلك العصر.. 

          العقبة الثانية، وهي أننا نقرأ الظاهرة من خلال وثائقها ومعطياتها.. لكن ثمة مشكلة في التاريخ الإسلامي لا ترتبط بالدلالة إنما بالدلالة والدليل معاً.. أي أننا لا نملك دليلاً منجزاً ومحسوماً من حيث مصداقيته..

            المشكلة الثالثة، تتعلق بالمذاهب نفسها.. وهذه مشكلة موضوعية وليست ذاتية.. بمعنى أن المذاهب بطبيعتها مُحملة بادعاءات يقينية جازمة.. وبالتالي تحول المذهب إلى كتلة صلبة من الدوغمة واليقينيات التي يصعب اختراقها.. ومشكلتها أنها تستمتد معطياتها من التاريخ والذي يعتبر ساحة الـ"لايقين" والأحداث العرضية.. 

          وعرض الدكتور قانصوإلى جدلية ومفارقة لم نلتفت إليها وهي أننا في الوقت الذي نحمل فيه يقنياً قاطعاً في كثيير من معتقداتنا المذهبية ننسى أننا نستعيرها من التاريخ وشواهده وأحداثه، وهنا تمكن المشكلة.. وفي هذا الجانب، أشار الدكتور قانصو إلى تعبير "الدائرة التأويلية" في ما يتعلق بمعرفة التأويل.. والتي ترى بأن يتم تأويل المعطيات الجزئية ليُستخلص منها الكليات التي يتم اختبارها بالعودة إلى المعطيات الجزئية ليُستخلص منها الكليات مرة أخرى وهكذا.. وفي كل مرة، تكون هناك دورة جديدة بين الكُليات والمستخلصات بحيث أن الكل يفسر الجزء والجزء يفسر الكل.. المشكلة تكمن عندما تأتي سلطة تكسر هذه الدائرة، ليتم فصل الكليات عن دائرة الجزئيات ويتم اعتبارها بأنها كليات ثابتة ومتعالية عن التاريخ وورائه، فوق تاريخية ميتافيزيقية لا يمكن حدها.. وإذا ما كسرنا الدائرة التأويلية، فإن الأفكار الكلية التي ننتجها لتفسر واقعنا وننظمه تصبح منفصلة عنا، فيحصل بيننا وبينها اغتراباً فيكون لها وجود مستقل عنا.. وبالتالي، يصبح هناك خلل بين الحدث التاريخي وبيينا.. وتمكن مشكلة المنظومات المذهبية الإسلامية أنها قد انتهت إلى كسر الدائرة التأويلية، ولكي تستعيد خصوبتها فإنها يجب أن تستعيد هذه الدائرة التأويلية من جديد ليصبح الكلي محدد بالجزئي وبالعكس.. وما أن يتم قطع هذه الدائرة، فإن تلك الأفكار ى تعود كذلك بل تصبح أصناماً أو آلهة بطريقة أخرى نعبدها ونخرجها من دائرة إنسانيتنا..

          وخلص الدكتور قانصو إلى أنه من الناحية العلمية لا يمكن حسم مسألة تاريخية معينة.. لذا، علينا أن نخرج من الدوغمائية التي نعيش فيها، أي الخروج من عقلية الحسم والجزم والقطع في إثبات حقائق تاريخية وصلتنا عبر مصنفات ومدونات لم نعاينها بأنفسنا..