الوثيقة السياسية التي أصدرتها «حماس» وجمعت فيها الكثير من المتناقضات، كشفت أن الحركة الإسلامية لم تحد عن هدفها الأساس الذي قامت من أجله: تشكيل بديل من منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية المنبثقة منها. أما التنصل الجزئي من جماعة «الإخوان المسلمين» الأم، والقبول الملتبس بدولة ضمن حدود عام 1967، فمن الضرورات التي تفرضها محاولة فك العزلة المتنامية، من دون أن يمنعها ذلك من التذاكي اللغوي الذي يبقي الباب مفتوحاً أمام التهرب مستقبلاً من أي التزام.
فمنذ تأسيسها قدمت «حماس» نفسها بديلاً إسلامياً من منظمة التحرير «العلمانية»، وهو ما شجعت عليه إسرائيل ضمناً، لأن وجود هيئة فلسطينية ثانية تنازع القيادة الفلسطينية الشرعية كان ولا يزال يصب في مصلحة الاحتلال. وطوال ثلاثين عاماً لم تفعل «حماس» سوى تكريس هذه الثنائية، ليس في إطار التنوع والتوافق، بل في خدمة الانقسام والتنازع، موفرة لإسرائيل حجة مثالية للتهرب من اتفاق سلام نهائي، عبر التذرع الدائم بأن المنظمة لا تشكل «شريكاً» موثوقاً به، لأنها لا تمثل الفلسطينيين جميعاً، وأن هناك من لا يزال يطالب بـ «تدمير» الدولة العبرية لأسباب دينية.
تأتي الوثيقة بعد ثلاث حروب مدمرة مع إسرائيل بكلفة بشرية ومادية هائلة، وقيود مشددة فرضتها القاهرة على المنفذ البري الوحيد لقطاع غزة، لمنع استخدامه في تسريب الأسلحة والمقاتلين إلى «إخوان» مصر ومتشدديها في سيناء، وقطع قنوات التمويل الخليجية بعد اعتبار بعض دول الخليج الجماعة منظمة إرهابية، وتفاقم الوضع المعيشي في القطاع بسبب سوء إدارة الحركة وعسفها، ورفضها أي تعاون مع السلطة الوطنية يخفف معاناة الغزيين.
لكن «الحمساويين» لم يفعلوا في تعقّلهم المستجد سوى الانتقال إلى مرحلة جديدة من الغموض. فالوثيقة التي تعرّف «حماس» بأنها «حركة تحرير ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية... مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها»، لا تلغي بحسب خالد مشعل ميثاق التأسيس الذي تضم مقدمته قولاً لـ «الإمام الشهيد» المؤسس حسن البنا، مؤكداً أن حركته «جزء من المدرسة الإخوانية لكنها تنظيم فلسطيني مستقل قائم بذاته... وليس تابعاً لأحد».
الحركة تقف إذن في منتصف الطريق بين «الفكر الإخواني» و «التنظيم الإخواني»، علماً أن المؤسسة الأم لا تلحظ فرقاً بينهما، وتعتبر أنهما في بوتقة واحدة، وأن الأول يقود حتماً إلى الثاني.
أما بالنسبة إلى القبول بدولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967، فليس مفهوماً كيف يمكن التوفيق بين ما قاله مشعل عن أن «التفاوض مع الاحتلال ليس من الثوابت» وبين «التعاطي مع الواقع السياسي بكل تطوراته». وليس واضحاً مع من ستتفاوض «حماس» لإقامة الدولة المزمعة، إذا لم يكن مع إسرائيل؟ وهل سيقبل أي طرف دولي أو الأمم المتحدة أن يرعى مفاوضات من هذا النوع إذا لم يكن هناك اعتراف متبادل بين طرفي المفاوضات؟ أم أن «حماس» تريد من السلطة أن تواصل «خيانتها»، بحسب اتهاماتها لها، وتفاوض على حدود الدولة ثم تقدمها إليها؟
وهل هناك فرق بين التفاوض مع إسرائيل والقبول بدولة ضمن حدود عام 1967 من منطلق وطني أو من منطلق إسلامي إذا كانت النتائج هي نفسها؟ ولماذا تقبل «حماس» اليوم بما تعيّر به قيادة منظمة التحرير منذ ثلاثين عاماً، وبما ادعت «تمايزها» به عنها؟
أما الأكثر مدعاة للاستغراب، فهو أن بعض مسؤولي الحركة الإسلامية يقول إن تمسكها بشعار «تحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها» عبر الكفاح المسلح، يهدف إلى قطع الطريق على «داعش» ومنع انتشاره في غزة، متناسين أن «حماس» هي التي مهدت الطريق أمام تفريخ التنظيم المتطرف وأمثاله، عبر سياسات التشدد التي تطبقها في القطاع والأفكار المتطرفة التي تنشرها بين سكانه، والتي هي ركن أساس في «الفكر الإخواني».