بخبّرني جِدّي إنو على إيام الانتداب الفرنسي بأولّ القرن العشرين على إيام المندوب السامي هنري غورو، صدر قرار من قيادة الجيش الفرنسي بضرورة شّق عدد من الطرق الجديدة في المناطق الجبلية الوعرة لتسهيل انتقال العسكر بين سلسلتي لبنان الشرقية والغربية.
 

وعلى أثر القرار، بدأ الفرنسيون البحث عن أفضل الحمير التي يقتنيها المزارعون اللبنانيون لمساعدتهم على اختيار أفضل المسالك وأسهلها في الجرود، وذلك بناءً على نظرية علمية فرنسية تفيد بأنّ الجحش هو أذكى الحيوانات في اختيار طريق الصعود والنزول على سفح الجبل.

ولكن على رغم كلّ النظريات والاجتهادات، تفاجأ الفرنسيون بفشل كل الحمير اللبنانية في سلوك السفوح الوعرة على رغم المحاولات الحثيثة، ما دفعهم في مرحلة من المراحل إلى استقدام طبيب بيطري نفسي من فرنسا إلى لبنان لمعالجة الموضوع.

وحتى هذا الطبيب عجز عن فهم عقلية الحمير اللبنانية أو حتى إقناعها، وذكر في تقريره النهائي الذي رفعه إلى المكتب الخاص للمندوب السامي، أنّ الحمير اللبنانية معتادة العمل بلا كلل والحراثة ونقل البضائع في حقول وبساتين البكوات والمشايخ، وهي غير مجهّزة عقلياً لأداء مهمّات الاستكشاف والمغامرة.

ولأنّ الفرنسيين كانوا ملزَمين شقّ الطرق لتسهيل انتشار انتدابهم، يقول جدّي إنهم اضطروا في نهاية المطاف إلى استقدام عدد لا يُستهان به من الحمير الفرنسية على متن إحدى البواخر الحربية، وكانت هذه الحمير فعلاً المسؤولة عن شقّ عدد غير قليل من الطرق الجبلية التي نسلكها اليوم بين المحافظات.

أنا بطبعي ما بحبّ لا الجحاش الفرنساوية ولا البلدية، وما بحبّ خبارها الفولكلورية والتاريخية... وأنا صراحة كنت قد أصبحت معتاداً على الزفت اللبناني ونسيت تماماً قصّة جدّي هذه، لولا تفركشت الليلة الماضية بمحطة فرنسية محترَمة تعرض البرامج الانتخابية للمرشّحين إلى الرئاسة الفرنسية.

جلست بكلّ تعجّب ودهشة وانبهار أتابع أشخاصاً مشهورين وسياسيين وناشطين وعمّالاً وموظفين يعرضون على التلفزيون الوطني الفرنسي مشاريعهم الإنمائية، ويقدّمون برامجهم المصمَّمة لخدمة الشعب الفرنسي طوال مدة ولايتهم.

أنا فرنسيتي على قدّي ولكن استعنت بجارتنا المترجمة المحلّفة، التي أكّدت لي أنه لم يتمّ استخدام أيّ مصطلح سياسي أو طائفي أو فئوي من قبل المرشّحين في أيّ من البرامج، وأنّ الكلمات تركّزت على تخفيف البطالة وتعزيز الاقتصاد وحماية الحرّيات ونشر الثقافة...

علقت الدمعة في عيني، ارتجفت شفتاي، تأثّرت كثيراً، ولم أعد أعلم أن أخفي وجهي في صالون البيت من هؤلاء الفرنسيين. خفت أن يلمحني أحدهم، خفت أن ينسى برنامجه الانتخابي ويطالبني بتعويضات جحشهم الفرنسي الذي جعل جبالنا ضيَعاً وسواحلنا مدناً... خفت أن يسألني عن قوانين الانتخاب، وعن برامج النوّاب ورؤساء البلديات والمخاتير والوزراء والمدراء العامين والمسؤولين في بلادي. خفت أن يسألني لماذا انتخبت فلاناً وعلى أيّ أساس.

خفت أن يكون قد قرأ في مكان ما عن همروجة قانون الانتخاب الأخيرة في لبنان، ويسألني ماذا فهمت منها وكيف ستساهم هذه القوانين في تطوير بلدي، أو ما هي برامج نوّابكم ومشاريعهم المستقبلية. خفت ان يسألني إذا كان قانون الستّين أو النسبية الذي يؤمّن الكهرباء والطبابة والمياه وينعش الاقتصاد.

خفت كثيراً وتوتّرت، ولكنني تذكّرت أنّ إسمَي المرشّحين الباقيَين في فرنسا تشبه كثيراً أسماء الأكل، فالأولى إسمها كالخبز «لو بان»، والثاني كالمعكرون «ماكرون»... فضحكت كثيراً وقهقهت وتمرّغت على السجادة مثل الكلب... وفي الآخر تذكّرت أنّ الفرنسيين فلّوا ولم يبقَ سوى جحشهم، وجدّي مات ولم تبقَ سوى أخباره، والديموقراطية اللبنانية انتحرت ولم يبقَ منها إلّا شوية طائفية وميليشيات.