أثار اندلاع اشتباكات بين قوة أمنية مشتركة تشمل حركة فتح التي ينتمي إليها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وفصائل حليفة لها من جهة وجماعة بدر الإسلامية المتطرفة من جهة أخرى، مخاوف بتصاعد العنف في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، حيث يعكس المأزق الأمني اللبناني والفلسطيني وفشل المقاربة الأمنية في تجاوز تحدي عناصر الجماعات التكفيرية، ويعزو القادة الفلسطينيون واللبنانيون ذلك إلى تبعات أوضاع المنطقة على لبنان والوجود الفلسطيني فيه، أمام تذبذب الأجهزة الأمنية في التعامل مع الميليشيات التابعة لحزب الله والمحرضة على العنف، بدعم من طهران.
 
خرج اجتماع الفصائل الفلسطينية الأخير في عين الحلوة باتفاق على دخول القوة الأمنية المشتركة إلى حي الطيري الذي يشكل المعقل الرئيسي لمجموعة
 
بلال بدر المتطرفة، وعلى تفكيك المربع الأمني الخاص به واختفائه عن الأنظار مع بقائه على لائحة المطلوبين للقوة الأمنية الفلسطينية. تعكس هذه المعالجة جملة مآزق لبنانية وفلسطينية وارتباكا كبيرا في صفوف القيادات الأمنية في الجانبين، فقد ترك الجيش اللبناني أمر معالجة الأمور للقوة الفلسطينية المشتركة وتم التعامل مع المخيم كحالة معزولة وكأن أمن المخيمات لا يقع في صلب معادلة الأمن اللبناني ككل.
كذلك حرصت القوة الأمنية الفلسطينية على اعتماد منطق الحل العسكري الذي يعلم الجميع أنه لن يكون ممكنا إلا بكلفة باهظة، وخصوصا أن المعلومات تشير إلى أن حالة بلال بدر ليست مرحلية ووليدة الساعة، بل هي حصيلة نمو جو من التطرف داخل المخيم ترجح بعض المصادر أنه بدأ منذ أكثر من 10 سنوات. هكذا كانت المعالجة القاضية بتواري بدر عن الأنظار مخرجا عاما للتغطية على العجز اللبناني الفلسطيني المشترك عن إنتاج ولو الحد الأدنى من الحلول لأزمة عين الحلوة وأزمة المخيمات الفلسطينية عموما. يدل هذا المناخ على أن ما حدث ليس خاتمة لمسلسل التصعيد في المخيمات بل لا يعدو كونه معالجة مؤقتة.
مواقف فلسطينية
 
تسمح هذه المعالجة للقوة الفلسطينية وللدولة اللبنانية برفع مسؤوليتها عن التسبب في وصول الأمور إلى هذه الدرجة من التصعيد، وتمهد من ناحية أخرى لنشوء حالات أكثر تطرفا من حالة بلال بدر، أو ربما لظهور جديد له بهيئة أكثر قوة وخطورة. يؤكد قائد الأمن الفلسطيني صبحي أبوعرب أن “التعليمات بإنهاء حالة بلال بدر جاءت من القيادة السياسية الفلسطينية” ويلفت إلى أن تنظيم “بدر لم يكن يقاتل وحده بل كان يحظى بمساندة عدد من العناصر والجماعات التكفيرية”.
 
يلفت القيادي في حركة فتح العميد محمود عيسى الذي يطلق عليه لقب “اللينو” أن بلال بدر كان يحظى بدعم مجموعات تنتمي إلى محمد الشعبي وهيثم الشعبي، إضافة إلى التيارات التي تدور في فلك داعش ويشير إلى أن “كل هذه المجموعات تحظى بدعم من جهات إقليمية”. يرفض اللينو اتهام أي جهة بشكل مباشر نظرا إلى “عدم توفر المعطيات الدقيقة حول المسؤولية عن تمويل وتسليح مجموعة بلال بدر والمجموعات التي تسانده”، لافتا إلى أن الأمور “ستتضح في نهاية المطاف”.
 
يعيد نائب قائد قوات الأمن الفلسطيني منير المقدح التأكيد على ضرورة “تنفيذ قرار القيادة السياسية” ولا يخرج المقدح ما يحدث في المخيم عن السياقات الإقليمية ويلفت إلى أن “الوضع الفلسطيني عموما مرتبط بما يحدث في المنطقة”. ويشير إلى أن “التواصل مع القوى الأمنية اللبنانية مستمر، ويشمل كل التفاصيل وخصوصا أن القوة الأمنية الفلسطينية التي تم تشكيلها مؤخرا تستمد شرعيتها من أنها خرجت إلى النور إثر تحقق إجماع لبناني فلسطيني حولها”.
ولا يرى المقدح ارتباطا بين التصعيد الحاصل حاليا وبين ما كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد دعا إليه في زيارته الأخيرة إلى لبنان من ناحية سحب السلاح الفلسطيني في المخيمات. ويشدد على أن الحالة المتطرفة “كانت قائمة منذ فترة، ولكنها استفحلت مؤخرا وعمدت إلى تعطيل قرار القوة الأمنية بالانتشار في كل المخيم بما فيه حي الطيري، وهو ما أنتج قرار المواجهة”.
 
يدعو الناطق باسم حركة حماس في لبنان علي بركة إلى تقديم توصيف دقيق لما يجري في مخيم عين الحلوة معتبرا أن الأمر “لم يكن معركة مع حالات كثيرة ومتعددة كما يقال، بل إنه معركة بين القوى الفلسطينية المشتركة التي تضم تحالف عشرين فصيلا فلسطينيا مع مجموعة بلال بدر التي اعتدت عليها ومنعتها من تنفيذ مهامها الخاضعة لإجماع فلسطيني عام”.
ويشير بركة إلى أن حرص كل الفصائل الفلسطينية على إنهاء الاشتباكات والتخلص من الوضع الشاذ في المخيم، يأتي في إطار التمهيد للانتشار التام للقوة الفلسطينية المشتركة المكلفة بحماية الأمن والاستقرار في المخيم. يعرب بركة عن رفض تام لتحويل المخيم إلى “ساحة اقتتال فلسطيني- فلسطيني أو فلسطيني- لبناني أو أن يتحول إلى صندوق بريد تمرر من خلاله الرسائل، أو يكون منطلقا لضرب استقرار لبنان”.
 
ويشدد على أنه “يجب أن يبقى مخيم عين الحلوة وسائر المخيمات الفلسطينية في لبنان محطات نضالية على طريق العودة إلى فلسطين”. يعتبر بركة أنه “قد تكون هناك جهات إقليمية وخارجية لا تريد للقوى الأمنية الفلسطينية النجاح في مهمتها، ولكن في المقابل فإن كل الجهات اللبنانية الرسمية والحزبية وخصوصا فعاليات مدينة صيدا تدعم القوة المشتركة والقيادة الفلسطينية الموحدة”.
 
ويعتبر ممثل حركة الجهاد الإسلامي أبوعماد الرفاعي أن الأطراف المتسببة في النزاع بمخيم عين الحلوة تهدف “إلى إبقاء المخيمات الفلسطينية عموما تحت وطأة الضغط الأمني، والدفع في اتجاه تصعيد الأمور بشكل يؤذي قضية اللاجئين الفلسطينيين بشكل عام”. ويشير إلى أن “مجموعة بلال بدر مارست على امتداد أشهر طويلة عمليات قتل واغتيال في حق حركة فتح، وهو ما يصب في خانة استهداف الوضع الأمني في المخيمات”.
لقد أنتج هذا الواقع وفق الرفاعي “حالة إجماع فلسطيني عام على إنهاء هذه الظاهرة ليس بسبب تأثيرها المباشر على الاستقرار الأمني في المخيم، بل لأن شبكة تأثيراتها السلبية ترتبط بالوجود الفلسطيني في لبنان ككل”. يعترف الرفاعي بعدم وجود معلومات دقيقة حول مرجعية بلال بدر الأمنية والعقائدية والجهات التي تموله ويرى أنه أقرب إلى أن يكون “بندقية للإيجار يتم استخدامها من قبل عدة أطراف وليس من قبل طرف واحد محدد، فالكثير من عمليات القتل التي مارستها جماعته كانت ترتبط بعناوين داخلية أحيانا وترتبط في مرات أخرى بعناوين خارجية”.
 
ويعتبر أن دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى سحب السلاح الفلسطيني لم تترافق مع زيارته الأخيرة بل كان قد أتى على ذكر هذا الموضوع في مرات سابقة كما أنه لا يرى أي ارتباط ممكن بين هذه الدعوة وبين المواجهات مع جماعة بدر.
 
 
قراءة لبنانية
 
ما يجري في مخيم عين الحلوة منفصل عن الشأن الإقليمي وفق الرفاعي، الذي يضعه في إطار “التسبب في تداعيات تطال الوضع الداخلي للمخيمات ومنع قيام موقف فلسطيني موحد، ولكن قد يكون الإجماع الفلسطيني الرافض للإرهاب دليلا على وجود وعي فلسطيني، يقرأ بوضوح تام التحديات التي تواجه الوجود الفلسطيني ويسعى إلى مواجهتها بقدر كبير من المسؤولية”.
 
يعتبر رئيس لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني الوزير السابق حسن منيمنة أن الوضع السيء في المخيمات الفلسطينية عموما وعين الحلوة خصوصا هو “نتاج مسؤولية لبنانية فلسطينية مشتركة، فهذه المخيمات موجودة داخل لبنان وعلى أرض لبنان، وهي تدار في الآن نفسه من قبل المنظمات الفلسطينية والفصائل الفلسطينية، وتاليا فإن معالجة كل المشاكل القائمة فيها سواء أكانت أمنية أم اجتماعية وسياسية هي مسؤولية لبنانية فلسطينية مشتركة”.
 
ويلفت إلى أن “ترك المخيمات في حالة من البؤس الشديد والفقر المدقع وانتشار البطالة في صفوف الشباب وحتى الذين يحملون شهادات جامعية عالية، تدفع إلى نشوء حالات من الغضب، وتمهد لنشوء ردة فعل سلبية على الدولة اللبنانية وعلى الفصائل الفلسطينية كذلك”. ويحذر منيمنة من أنه “ما لم تتم معالجة الأوضاع السيئة لشباب عين الحلوة وسائر المخيمات الفلسطينية، فإن الوضع سيكون مهيّأ أمام القوى المتطرفة لاستقطابهم”.
يعتبر منيمنة أنه قد “آن الأوان لكي تشرع الدولة اللبنانية والمنظمات الفلسطينية في القيام بعلمية إصلاح واسعة” مؤكدا أن “ترك الأمور للمعالجة الأمنية فحسب لا يستطيع لجم حالة الانفجار التي ترتفع وتيرتها”. ويرى أن قلة الاهتمام الإعلامي اللبناني بموضوع التطورات الخطيرة في عين الحلوة في هذه الفترة عائد إلى أن اللبنانيين “ينشغلون في هذه الفترة بمشاكلهم، وقد قرروا ترك الحسم في داخل المخيمات إلى الفلسطينيين أنفسهم”.
 
ويعتبر أن التجارب السابقة في التعامل مع قضايا شبيهة بقضية بلال بدر تؤكد أن “التفاوض الذي كان يجري في الفترة الأخيرة لم يكن سوى مقدمة للتمهيد للحل القاضي بتواري بدر عن الأنظار وحل تنظيمه العسكري، لأن تسليم نفسه إلى جهات فلسطينية متعذر، وهكذا فإن المعالجة التي تم اعتمادها كانت عبر التعامل مع حالته كما تم التعامل سابقا مع حالة شاكر العبسي في مخيم نهر البارد”. ويعتبر عضو المكتب السياسي في تيار المستقبل مصطفى علوش أن المشكلة الكبرى في ما يخص التعامل مع مشكلة عين الحلوة سابقا وحاليا تكمن في أطر المعالجة المعتمدة.
 
ويذكّر بتجربة نهر البارد مشددا على أنها “كانت قاسية إلى حد كبير حيث كان ثمن الحسم غاليا جدا على المستوى البشري والتهجيري، وبالمقارنة مع الموضوع في عين الحلوة فإن حجم الأزمة قد يكون مضاعفا للعشرات من المرات”. يضيف “قد يكون الخيار الذي اتخذ مؤخرا والقاضي بمغادرة بلال بدر لمخيم عين الحلوة هو الخيار الوحيد الممكن في الوقت الحالي، ولكن ليس هناك ما يؤكد أنه سيوصل إلى نتيجة إيجابية في نهاية المطاف”.
 
 
معالجة أمنية
 
يقرأ مصطفى السماح للجيش اللبناني بانتقال عناصر فلسطينية من مكان إلى آخر لدعم القوى التي تواجه بلال بدر بوصفه مؤشرا على “عدم وجود قرار نهائي بخضوع المخيمات الفلسطينية للسلطة اللبنانية بشكل كامل. ويستعدي هذا الوضع القائم معالجة في إطار البراغماتية السياسية والأمنية، والتي تفترض بأن تعالج الأمور بالتي هي أحسن، لأن المعالجات الأخرى معقدة وخطيرة”.
 
ويؤكد علوش أن الوضع القائم في عين الحلوة وفي كل المخيمات الفلسطينية “متصل بشكل وثيق بالمشهد الأمني العام في المنطقة وبخصوصيات المشهد الأمني اللبناني الداخلي”. ويشدد على أن التجارب قد أثبتت أن الحلول الأمنية “لا يمكن أن تكون مجتزأة فهناك ميليشيات مسلحة خارج المخيمات من حزب الله وغيره، لذا فإن المعالجة الأمنية في مكان واحد لا بد أن تؤدي إلى أزمة كبرى”.
إن تذبذب التعامل مع الفصائل اللبنانية من قبل أجهزة الدولة اللبنانية وفق علوش “لا يسمح لها باتخاذ قرار شامل وحاسم، وخصوصا أن ضريبة الدم التي يتوقع أن تدفعها في حال اتخاذ مثل هذا القرار عالية جدا”. ويشدد أن الأمور ذاهبة في اتجاه “تسويات مؤقتة وتهدئة مرحلية في انتظار ظهور عامل جديد، تعود بعده الأوضاع إلى الاشتعال”. ولعل طريقة تعامل الأجهزة الأمنية اللبنانية مع مشهد عين الحلوة المتأزم ينطوي على أزمة أمنية لبنانية خطيرة.
 
والسماح لقوى عسكرية فلسطينية بالانتقال العلني من مكان إلى آخر لمساندة القوة الفلسطينية المشتركة في عين الحلوة يحمل دلالة سلبية مزدوجة فهو يدل من ناحية على عجز القوى الأمنية اللبنانية عن الحسم أو عدم رغبتها فيه أساسا، ويدل من ناحية أخرى على وجود مناخ يصب في خانة منح الشرعية للوجود الميليشيوي الخارج عن سيطرة الدولة.
 
كذلك يمكن أن نقول إن القوة الأمنية المشتركة قد سقطت في امتحانها الأبرز، فبعد أن انتشرت التصريحات التي تؤكد أن لا بديل عن الحل العسكري لظاهرة بلال بدر على ألسنة ممثلي الفصائل، يأتي الحل المجتزأ ليطرح الكثير من الشكوك حول قدرة هذه القوة على لعب دور ضابط الإيقاع الأمني في المخيمات. كذلك لم يعد ممكنا تجاهل حجم ومدى تغلغل التيارات الإرهابية إلى قلب مخيم عين الحلوة وتحولها إلى رقم صعب في المعادلة الأمنية في داخله.
 
وهكذا فإن بلال بدر لم ينهزم بل اختفى ليتحول إلى واحد من الأشباح الكثيرة التي يتكاثر نموها في البيئة اللبنانية والفلسطينية مؤخرا تحت مسميات عديدة، والتي لا يستطيع أحد التكهن بتوقيت ظهورها القادم وما يمكن أن يحمل معه من كوارث في ظل أجواء مشحونة وقابلة للانفجار في أي لحظة ولأي سبب.
 
شادي علاء الدين