لا يمكن بالطبع اعتبار الجمهور الذي يحضر لسماع محاضرة في قاعة الملك فيصل بالرياض جمهوراً عادياً، مثل أولئك الذين يستمعون إلى مقابلة في إحدى القنوات الفضائية. أقول ذلك بمناسبة سفري إلى الرياض لحضور احتفال جائزة الملك فيصل التي حصلتُ عليها في الدراسات الإسلامية. ومن ضمن ترتيبات الجائرة إلقاءُ محاضرة بقاعة الملك فيصل في موضوعٍ يختاره المحاضر، وقد كانت المحاضرة عن أعمالي في التفكير السياسي في الإسلام. وكان الجمهور الحاضر كثيفاً، ولا أذكر كثافة مشابهة إلا قبل أكثر من عشر سنواتٍ عندما حضر صمويل هنتنغتون صاحب «صراع الحضارات».
ما حضر هذا الجمهور النخبوي للتحدي أو للمعارضة، فأكثر الحاضرين من الكهول والشيوخ محبٌّ ومهتم. بيد أنّ الأكثرين حضروا مصممين على أمورٍ وأولويات مختلفة عما اعتدتُ عليه من خطابٍ وأولويات.
لقد كان همي أن أعرض رؤيتي لمدارس التفكير بالدولة في المجال الإسلامي القديم، وهي تتضمن آراء وانطباعاتٍ أُخرى عن علائق الدولة بالدين. ولأنني كتبتُ أيضاً في سياسات الإسلام الحديث والمعاصر؛ فقد أردتُ إلقاء نظرة على متغيرات الوعي والواقع، والتي وقعت في أصل التفكير الديني والسياسي في الأزمنة الحاضرة. ولأنني حصلتُ على جائزة الملك فيصل، فقد رأيتُ أنه من المناسب الحديث عن إمكانيات التأهل العلمي والمرجعية في الدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وهو ملفٌّ معقَّدٌ ذو صلة وثيقة بالتفاوتات الشاسعة المعرفية والمنهجية والموضوعية والتاريخية في علائق الشرق بالغرب، والعرب بالعالم.
أبدى بعض الحاضرين اهتماماً بالمسائل العلمية التي عرضْتُ لها، من مثل التفكير بالدولة، والاتجاهات والمدارس المختلفة بهذا الشأن، والفروق بين السياسة والسياسة الشرعية. وأبدوا بالطبع اهتماماً أكبر بمسألة نظام الحكم في الإسلام، أو هل هو صحيح أنه ما من نظام حكمٍ في الإسلام ملزِمٍ من الناحية الدينية.
بيد أنّ النقاشات والأسئلة تركّزت على القضايا الحديثة والمعاصرة، فما من أحدٍ مستعد لقبول إقامة موازنة بين الأفعال وردود الفعل، ولا بين تحريفات المفاهيم والمسؤولية عن أعمال القتل والتهجير. فقد انصبّ جهدي منذ العام 2002 على دراسة انكسارات الوعي والتصرف، وكيف يظهر ذلك في صحويات الإسلام السياسي والجهادي. لكنّ معظم المناقشين ما وافقوني الرأي في أنّ «الأفعال الدولية» في الحرب الباردة وبعدها، استجلبت ردود فعلٍ دينية وسياسية.
فحتى ردود الفعل هذه اعتبروها من صناعة الفاعلين الدوليين أنفسهم ومنذ التسعينات وحتى اليوم مع «القاعدة» و«داعش» والتنظيمات المشابهة. وهذا لا يعني عدم إدانة للتحريفات في الدين، كما لا يعني عدم إدانة السذاجة والاغترار والتبعية في الركض الحماسي إلى أفغانستان من أجل هزيمة الروس لصالح الأميركان. وعدتُ إلى التنظير فقلتُ إنّ هناك تلاؤماً في العادة بين فقه العيش وفقه الدين. وقد جاءت الحداثة بمتغيرات جذرية في ترتيبات العيش، فكان لا بد أن يظهر فقه جديد للدين للتوجيه والتلاؤم. 
لكنّ الإصلاحيين والسلفيين والإخوان والجماعة الإسلامية في باكستان؛ كل هؤلاء؛ قصّروا أو فشلوا في إنتاج فقهٍ جديدٍ للدين يتبادل الملاءمة مع العيش الجديد. فكان السبب الآخر للتحريفات في المفاهيم والانشقاقات هو ذاك القصور في فهم العالم ورؤيته بعيونٍ جديدة غير تقليدية وغير إحيائية أو أصولية! وأقرَّ السائلون بأنّ تحريفات قضايا مثل الجهاد والردة والبراء، خطيرة على الدين، لكنها تعبير عن انكفاء وتقوقع وتخلٍّ عن المسؤوليات في الدين، أكثر مما هي هجمات، وإن يكن كل عنفٍ باسم الدين مستنكراً.
وعندما تعود معهم لمنهجية التأصيل التي يعتمدها الإسلاميون والحداثيون بنتائج مختلفة، بدا عددٌ منهم غير متأكدين من صحة ذلك أو خطئه. فعندما يعود الداعشيون إلى الخلافة الراشدة، ويعلِّلون كلَّ عنفٍ بسابقة عن أحد الصحابة، يكون ذلك مضراً بالدين. وقال لي أستاذ جامعي: لكنك أنت تذهب للتقليد، وهو نوعٌ من التأصيل، وهي عملية انتقائية أو اجتهادية ولها مقاييس يمكن تقييمها على أساسها، إنما كيف تحاسب أركون أو الجابري أو طرابيشي أو حرب الذين يقيمون الحداثة أو الابستمولوجيا أو التفكيك مرجعية ثم يأبون الخضوع لأي مقياسٍ أو معيار؟!
وجادلتُ في أنّ السلفيين والإصلاحيين خرجوا من التقليد وعليه، وذهبوا باتجاه التشدد أو العلمنة، عجزاً عن تطوير مناهج لقراءة النص الديني شأن أهل التقليد. وأنا أريد استيعاب التقليد وتجاوزه بسلاسة ومن دون تشنج، لكنني سلّمتُ معهم أنّ في التأصيل انتقائية قوية أيضاً، وهو يمكن أن يخدم الليبراليين كما يمكن أن يخدم الإحيائيين والمتشددين.
كل هذه القضايا الفكرية والدينية هي محلُّ اهتمام النُّخَب المثقفة والمتدينة. بيد أنّ همَّهم الرئيسي يبقى هماً سياسياً، وهو الحاضرُ المُزري والفظيع للعرب والمسلمين. وعندهم ثلاث قضايا: دفع الإيرانيين والروس والأميركيين... إلخ عن الدول والبلدان - وإيقاف قتل العرب السنة على أيدي الجميع - وإعادة بناء المجتمعات والدول. وقلت إنّ كلَّ قضية من هذه القضايا المهولة تتطلب أعماراً ومصائر.
وأجابوا كأنما بلسانٍ واحد: فليكن، أَوَلا تضيعُ أمس واليومَ وغداً عشراتُ آلاف الأرواح في سُبُل الخطل والفشل والضلال؟! انظر كَمْ كلفتنا «القاعدة» وأخواتها في ديننا ودنيانا وبلداننا وسمعتنا في العالم! واختلف اثنان في أيهما كان الأكثر تكلفة على الأمة: بشار الأسد أم أسامة بن لادن. وقلت: إنّ الأسد وحش أسطوري. فسارع الآخر للملاحظة: أما «القاعدة» فهي مجموعة كبيرة من الوحوش الأسطورية، ولا تزال مستمرة في التوالد بما يضر الدين والدولة والعالم الإنساني!
وأردْتُ الهروب من الموضوعات الثلاثة، فقلت إنها ليست من أعمال التفكير بالدولة في التراث الإسلامي! فأعرضوا كأنما لم ينتبهوا وقال أحدهم: نحن نعلم أنّ دفع الإيرانيين والدوليين هو من أعمال الدبلوماسية الكبرى، أما مهمتا إيقاف القتل وإعادة البناء فينبغي أن نقوم بهما نحن العرب، ولا أحد يتصدى لمهمة القيادة غير المملكة ونحن منزعجون أنه ليس هناك بين السياسيين والمثقفين العرب وليس بين الجمهور، وعي كافٍ بضرورة ذلك.
هل هذا يعني أنّ أعمال النقد وتصحيح الرأي والرؤية غير ضرورية؟ قالوا: بل هي ضرورية بقدر ضرورة أعمال التصحيح والإصلاح السياسي. أولادنا الذين ذهبوا لعند «داعش»، تعود بقاياهم الآن، فإلى أين يذهبون؟ لعند بشار أم العبادي والمالكي أم إيران وميليشياتها؟ التوبة عن الداعشيات تستدعي خروجاً من الديكتاتوريات، أو يقع شبابنا وتقع طاقاتنا كما هي اليوم (وليس القلة الداعشية فقط) بين الأنياب السامة للتطرف الديني والطغيان السياسي والمذهبي والسياسات الدولية العاتية!
ما كانت الآراء التي استمعتُ إليها أو اعترضت عليّ في محاضرتي بقاعة الملك فيصل بالرياض غريبة عليّ. إنما ما كنتُ أعرف أنّ عليها إجماعات، وأنّ حملتها يعرفون ماذا يريدون وكيف يسيرون. إنه وعي عربي جديد ومنتشر ما بين المشرق والمغرب، وهو لا يقبل المسلَّمات الحداثية ولا الأُصولية، لكنه شديد الوعي بالأمة والجماعة والدولة الوطنية، وهو يعتقد أنه يستطيع إعادة الانضباط إلى السلفية، يستطيع استرجاع ما ضيعه الأسديون والداعشيون. ويا للعرب!