معروف عن الرئيس نبيه برّي تفضيله البقاءَ في منطقة التفاؤل، حتى ولو كان البلد غارقاً في بحر التشاؤم.
 

لا يعني ذلك التفاؤلَ لمجرّد التفاؤل فقط، بل لأنّه يرفض الاستسلام للتشاؤم، ويُبقي الأبوابَ مفتوحة على الأمل، ولذلك تراه دائماً يبحث في بحر التشاؤم الذي يُغرق كلَّ العناوين والملفّات الساخنة، عن «قشّةٍ» يمكن أن يُستعان بها لعلّها تُشكّل مفتاح النجاة والوصول بالبلد ولو إلى حدّ أدنى من الأمان، وثمَّة محطات مشهودة له في هذا السياق، وتوالت منذ إطلاقه الحوارَ الوطني في آذار 2006.

صحيح أنّ البلد استعاد بعضَ الحيوية والانتعاش السياسي؛ انتخب رئيس للجمهورية، عادت الحياة إلى مجلس النواب، حكومة تعمل وتُنجز بقدر إمكاناتها، أعِدَّت موزانة لأوّل مرّة منذ 11 سنة، وفي الطريق إنجاز قريب بتحقيق سلسلة الرتب والرواتب للموظفين، والمشهد العام مفروش بوعود زهرية، سواء على مستوى الكهرباء وغير ذلك من المشاريع الإنمائية، وصولاً إلى النفط اللبناني الذي يشكّل شريان الأمل بعودة لبنان إلى النهوض وتجاوُزِ أزماته الاقتصادية والمالية، وها هي الشركات العالمية تتهافت للمشاركة في التلزيم وبلغَ عددُها حتى الآن 27 شركة عالمية، وهذا كلّه يَبعث على الارتياح والاطمئنان للمستقبل، إلّا أنّ هذا المشهد كلّه مهدّد؟!

هذه الصورة يراها بري، وحذرُه شديد من الوصول إلى لحظة نجد فيها البلد وقد دخلَ في «مجهول» من الصعب التكهّنُ أو تقدير ما يحمله من مفاجآت وسلبيات، وحجمِها وحالِ البلد في ظلّها. لكنّه ما يزال يرى أنّ شَعرة الأمل ما تزال موجودة، وهي مربوطة بالقانون الانتخابي الذي يشكّل في رأي رئيس المجلس قاربَ النجاة الوحيد ممّا ينتظر لبنان.

لبنان، كما يراه بري ، في وضعٍ حرِج، ولكن ثمّة فرصة قصيرة متبقّية أخشى أن تكون الأخيرة.. صرنا في «أيام مصيرية»، ومحكومين بأن ننجح في دفعِ القارب الانتخابي إلى برّ الأمان.

الأسبوعان المقبلان حاسمان للإبحار بعكس التيار السلبي، والسقف 15 نيسان، فإمّا أبيض وإمّا أسود. وإذا لم نصل إلى قانون ضمن هذه المهلة، سنَدخل بعد هذا التاريخ في ما هو أصعب وأخطر، ونصطدم بخيارَين كلاهما أسوأ من الآخر، إمّا التمديد تحت عنوان تمديد الضرورة، وإمّا الفراغ.

يقول بري: لستُ سعيداً ولن أكون سعيداً أبداً بالتمديد، أنا مع التمديد التقني للمجلس، أمّا بعد الوصول إلى قانون أو التفاهم على قانون. وأمّا الفراغ، فهو الخطر الأكبر، المسألة ليست مزحة، لا تبقى دولةٌ ولا مؤسّسات، لا مجلس ولا حكومة ولا رئاسة جمهورية ولا أيّ شيء. قد يقول البعض بالذهاب إلى مؤتمر تأسيسيّ، هذا البعض ينسى أنّ المؤتمر التأسيسي خرابٌ للبلد.

هي صرخة جديدة يُطلقها بري في البرّية السياسية، لعلّها تجد مَن يتلقّفها، ولعلّها تُبدّل في الذهنية السلبية والشخصية والمصلحية التي تتمّ مِن خلالها مقاربةُ الملف الانتخابي: الضرورة باتت تُحتّم الوصولَ إلى قانون أساسُه أن تنتخب كلّ الناس بعضها البعض فيه وليس كلّ فئة تنتخب فئة.

هناك من يَطرح صيَغاً انتخابية يَعتبرها مُنزَلة، وبعضُها أسوأ من قانون الستّين. ولذلك، نحن سنذهب إلى مجلس الوزراء قريباً بطرحِ المختلط بين الأكثري والنسبي على قاعدة 64 – 64، بوصفِه الصيغة الأفضل التي يمكن أن تُنزِل القانون من شجرة التعقيدات.

«ليتَهم سمعوا منّي «.. يقول بري، « فلو مشوا معي في «السلّة» التي طرحتُها عشيّة الانتخابات الرئاسية لكُنّا وفَّرنا علينا الكثير، ولوسَمعوا تحذيراتي المتتالية منذ سنوات لَما كنّا ندور اليوم في هذه الدوّامة.

يعود بري بالذاكرة هنا إلى ما قاله في جلسة الحوار الوطني التي عقِدت في القصر الجمهوري في بعبدا قبل نحو ثلاث سنوات، في 5 أيار 2014، يومَها صَدر كلام عن «مجلس تأسيسيّ» والمثالثة، والانتقاص من حقوق أهلنا وشركائنا وإخوتنا المسيحيين، وقلت هذا الأمر ليس وارداً. لبنان، إمّا أن يكون بجباله وبأرضه بدون شعب، أو لا يكون إلّا بالتركيبة التي ارتأيناها والتي على أساسها قمنا وسنستمرّ إنشاءالله.

يضيف بري، كنتُ أرى المشهد وأعرف إلى أين سنصل، ولذلك عبّرت آنذاك عن الخشية من أن يكون هناك فراغ في رئاسة الجمهورية، وبعد ذلك فراغ حتّى في المجلس النيابي، وتمديد جديد. سألني سفراء الاتّحاد الأوروبي فأجبتُهم لدينا قانون اسمُه قانون الستّين. إذا لم نتمكّن من وضعِ قانون جديد، تَجري الانتخابات ولو على قانون الستّين. يعني تمديد للمجلس النيابي، هذا أمرٌ يجب ألّا يحصل بشتّى الوسائل.

أمّا بالنسبة إلى النسبية، يقول بري، فأكّدتُ يومها أنّ النسبية هي إنقاذٌ للبنان وللنظام اللبناني، وهذا الكلام قلتُه في الحكمة أنا أخسر 4 نواب ولكن أربح لبنان.

ويضيف بري أنّه أكّد خلال جلسة الحوار آنذاك بأنّنا إذا أردنا تطبيق الطائف فقد آنَ الأوان أن نصارح شعبنا، هذا الطائف الذي نتمسّك به جميعُنا، يقول بالمادة 22 فيه، بإنشاء مجلس شيوخ، ومجلس نيابي على أساس وطني لا طائفي.

وأنا أقول بوجوب أن نذهب إلى إنشائهما في نفس الوقت، نُنشئ مجلس شيوخ تكون له صلاحيات مستقلة، أي صلاحيات تُطمئن الطوائفَ والأقلّيات، وكلّنا أقلّيات (الأحوال الشخصية. أمور الحرب والسلم. ألخ...) أمّا بقيّة الأمور فتعود صلاحيتها للمجلس النيابي لوضعِ تشريعاتٍ وطنية كما يجب. وإذا قلنا كيف سينتخب مجلس الشيوخ، فأنا أقبل أن يتمّ ذلك على أساس المشروع الأرثوذكسي.

ويُذكّر بري بأنّه شرَح في تلك الجلسة الغاية من وضعِ مشروعه المختلط ( 64-64) وقال: قلتُ لهم آنذاك أنا أريد الدوائر الكبرى، لكي أبقِيَ الخَلط (الانصهار) والنسبية، والدستور يَسمح لنا بذلك. لأنّ كلمة وطني في لبنان تعني، الميثاقي، فيجب أن نحافظ على موضوع الميثاق بين المسلمين وبين المسيحيين.

وعندما تحكي بالنسبية لا خوفَ على حقوق المسيحيين، بالعكس، أيّة أقلية يصبح لها دور في أيّة دائرة انتخابية أكثر من الأكثرية. فإذا أردنا أن نتّجه بالاتّجاه الصحيح فإنّ المخرَج هو أن نرجع إلى الدستور. ولكن متى نطبّق هذا الدستور؟

ويذكّر بري أيضاً بأنّه صارَح المجتمعين آنذاك وقال: أقول لكم بصراحة من الآن، النتيجة هي العودة إلى قانون الستين. وستجري الانتخابات على أساسه. في المرّة الماضية، أجمعَ المسيحيون في الدوحة على قانون الستين وأنا قبلتُ فيه، وليد جنبلاط قبلَ فيه.

هذه المرّة هم وقفوا ضدّ الستّين ويريدون الأرثوذكسي. «شوَيْ فجأةً» صار في قبول بقانون الستين، قمنا نَركض ركض حتى نرشّح حالنا. ولحَّقنا حالنا لحوق آخِر يومين. طيّب.. كيف... كيف بدّك تشتغل؟

وفي تلك الجلسة، استَحضر بري سلسلة الرتب والرواتب، وقال: «الناس لها حقوق، ولها حق في أخذِها. نحن الحقّ علينا، نحن بالسلطة. مراراً وتكراراً، لا غلاء معيشة، لا إعادة درس لهذا الموضوع، هذا أمر لا يجوز.

بعد ما تقدَّم، لم يستطع بري حتى الآن مِن هضمِ «الرسالة الخماسية» إلى قمّة عمّان « التي لم يحصل مثلها في تاريخ لبنان» علماً أنّه اعتبرَها تشويشاً على موقف لبنان، وتصويره في موقع الضعيف المربَك والمنقسم، فضلاً عن أنّها تشكّل مسّاً بمقام رئاسة الجمهورية.

هنا يَستذكر بري محطة في عهد الرئيس السابق إميل لحود، ويقول: يومها كان الرئيس فؤاد السنيورة رئيساً للحكومة. وكنّا على خصام وقطيعة سياسية. وكان آنذاك أمير قطر الشيخ حمد بصَدد زيارة لبنان. إتّصل بي السنيورة ليبلّغني بمواعيد لقاء كلّ منّا على حِدة مع الأمير حمد.

تَملّكني إصرار على أن لا نُظهر خلافَنا، بل أن نظهر جسماً داخليا متماسكاً، فقلتُ له لا أقبل بذلك، أقترح أن نذهبَ جميعُنا رئيسُ الجمهورية ورئيس المجلس ورئيس الحكومة ونشارك في الاستقبال الرسمي في المطار، ثمّ ننتقل ونشارك في المحادثات الرسمية في القصر الجمهوري، ومن ثمّ نعود «متعاديين». وهكذا كان، كان همّي أن نقدّم الصورة الجامعة لنا، أمّا بين بعضنا فلنختلف قدر ما نشاء».