الهندسة الماليّة التي نفّذها حاكم مصرف لبنان رياض سلامه قبل مدّة كانت ضروريّة جدّاً، لأن سلامه رأى احتياط المصرف من الدولار الأميركي ضعيف على نحو خطير.
 

 هذا ما يقوله مصرفيّون وخبراء ماليّون. وذلك يهدّد بالعجز عن سداد مستحقّات بالغة الأهميّة. فكان قراره وبعد التشاور مع "الحكم" في لبنان ومع المصارف إجراء لـ"الهندسة الماليّة". وكان هدفها الحصول على دولارات المصارف في الداخل والخارج في مقابل عملة لبنانيّة. وما كان ذلك ممكناً لولا إغراء المصارف بفوائد عالية تؤمّن مكاسب ماليّة كبيرة وإن "دفتريّة" على ما يقول مختصّون. ويفسّر فائض العملة اللبنانيّة في المصارف ارتفاع موجة تسليفاتها حاليّاً. لكن ما يقوله أيضاً معظم هؤلاء هو أنه كان لـ"الهندسة الماليّة" هدف آخر خاص هو مساعدة مصارف كبيرة قليلة العدد لتجاوز صعوبات ماليّة جدّية جرّاء تعثّر عمليّات عدد من فروعها في الخارج. وما يلفتون إليه هو أن المصلحة العامة فرضت مساعدتها تلافياً لأي انهيار يهدّد القطاع المصرفي في لبنان الذي يؤمّن وحده وفي هذه المرحلة حماية الاقتصاد الوطني في ظل ضعف قطاعاته كلّها. لكنّهم يلفتون في الوقت نفسه إلى أن الهدف كان أيضاً مساعدة مصرف مهم يمرّ صاحبه "السياسي" بصعوبات ماليّة كبيرة داخل لبنان وخارجه. وما يُعزّز فرضيّة المكاسب المصرفيّة الكبيرة هو محاولة البنوك الصغيرة التي لم تشترك ربما لصغر حجمها أو لحداثة سنّها في إقناع مصرف لبنان بإجراء هندسة جديدة تؤمِّن لها مكاسب مهمّة.
ماذا عن "الرشوة" التي اتّهم علانيّة وزير المال علي حسن خليل "جمعيّة المصارف" بعرضها عليه؟
يقول قريبون من الجمعية أنها لم تعرض على الوزير المذكور رشوة قيمتها مليار دولار أميركي. ويتساءلون لماذا اكتفى برمي إتّهامه ولم يُشِر في تفاصيله إلى أن الهدف منه تمويل "سلسلة الرتب والرواتب"، والامتناع عن فرض ضريبة على الأرباح التي حقّقتها المصارف من "الهندسة الماليّة" الأخيرة. ويلفتون أخيراً إلى أن تصريح رئيسها الذي نشرته كاملاً "الوكالة الوطنيّة للإعلام" لم يشر إلى عرض كهذا. لكنّهم يشيرون إلى أن رئيس الحكومة سعد الحريري كان أثار مع "الجمعية" أو أعضاء منها قبل مدّة موضوع اكتتاب المصارف بسندات خزينة بفائدة صفر في المئة من أجل مساعدة الدولة في هذه المرحلة الصعبة، ووُوجه بالرفض لأن ذلك حصل في السابق أيّام "باريس 2" عندما قدّم المشاركون فيه من دول ومنظّمات دوليّة مساعدات كبيرة جدّاً للبنان فلم تستطع مصارفه إلّا أن تشارك في هذا الأمر. أمّا الآن فإن الوضع مختلف. إلّا أن قريبين آخرين منها يقولون إن عرضاً قُدِّم لوزير المال باكتتاب المصارف بسندات خزينة بفائدة 5 في المئة. لكن العرض لم يُقبل.
في أي حال وأيّاً تكن صحّة هذه "الرشوة" فإن المصارف ليست جمعيات خيريّة. فهي مؤسّسات تبغي الربح. ومهمّة السلطات النقديّة والمصرفيّة متابعة هذا الأمر كي لا تخرج عن الحدّ المقبول. لكنّها في الوقت نفسه تتجاوب مع مبادرات لمصرف لبنان يكون الهدف منها عاماً أو هكذا يُفترض. وحصل ذلك أكثر من مرّة وخفّضت من ربحها المُتعارف على نسبته في العالم. لكنّها لم تخسر ولا تستطيع أن تخسر لأن أموالها هي أموال الناس المودعين.
في النهاية لا بدّ من الإشارة إلى معلومة يقول مالكها أن "وزارة الخزانة" الأميركية أعدّت "مسوّدة" عقوبات جديدة تطال مصارف لبنان وأفراداً فيه وجمعيات وأحزاباً. ومضمونها أقسى من القرار الذي اتّخذته السنة الماضية، وتجاوز لبنان آثاره بنجاح بفضل الحاكم سلامه وحكمة "حزب الله". فهو ينصّ مثلاً على منع فتح حساب مصرفي لأي رئيس بلدية أو عضو بلدية أو مختار له علاقة بـ"حزب الله". وقد تطال نصوصه "حركة أمل" أو أفراداً فيها. طبعاً تردّد شيء من ذلك قبل مدّة، ثم اختفى من الإعلام. وها هو يعود ثانية. طبعاً سيحاول الحاكم و"جمعية المصارف" التصرّف كالعادة للحؤول دون تحوّل "المسوّدة" قراراً رسميّاً أو على الأقل لحصر أذاها وضررها على اللبنانيّين. لكن لا بدّ أيضاً من دعوة أصحاب المال والأعمال والمصارف إلى الكفّ عن محاولة "إقناع" الإعلام على تنوّعه بقراراتهم وسياساتهم وحُسن نيّاتهم بالإغراءات المالية رغم أنها صارت "عُرفاً" مقبولاً من الفريقين. ولا بدّ من دعوة "كبار القوم" في الدولة وخارجها إلى عدم "التوسّط والتسهيل" في عملية "الاقناع" لأن مصيرها أحياناً يشبه ما يقوله المثل: "أكل الطعم وعملها على الصنّارة".