أشعر اليوم وللمرة الأولى بالجدية المبذولة لمعالجة أمور مزمنة في الدولة لطالما نادينا بها وأشرنا بالأصابع اليها، أمور من حياتنا وتفاصيلنا اليومية، وظلت في حكم النسيان لسنين طويلة من دون أيّ تصوّر جدّي أو واقعي للمعالجة.
 

تأتي الموازنة اليوم لتلقي الضوء على بعض الآفات، وعلى رغم أنّ الطريق لا تزال شائكة أمام الوصول الى موازنة منتجة 100 في المئة، لكنّ ما تم تحقيقه حتى اليوم يعتبر خطوة حقيقية في وضع اليد على جرح الاقتصاد النازف.

أوّل هذه الامور ضبط الفواتير الجمركية المخفّضة وإصلاح الوضع برمّته في مرفق يستنزف الاقتصاد اللبناني على كل الصعد، وكنّا قد حذّرنا مراراً من أنّ الفواتير المخفضة تمنع عن الدولة مداخيل أساسية وتنعكس على إيرادات الجمارك والـTVA مباشرة، هذا من جهة ومن جهة أخرى تزيد أكلاف التصدير بشكل جنوني، فكلفة الشحن لمستوعب 20 قدماً مثلاً الى بريطانيا نحو 320 دولاراً، أما الكلفة الداخلية من المصنع على ظهر «البابور» فهي نحو 650 دولاراً، صدّقوني يا عالم هذا هو الواقع!

من الواضح أنه لا يزال هناك العديد من المُشكّكين في الأرقام التي يتم التداول بها عن الفواتير المخفّضة والتهريب، وهنا نود الاستعانة قليلاً بلغة الارقام الأفصح والأوضح، لنلاحظ فروقات واضحة بين إحصاءات الجمارك اللبنانية، وإحصاءات الصادرات الخارجية لبعض الدول والموجودة على مواقعها الرسمية.

فمثلاً في الامارات العربية المتحدة تشير أرقام إجمالي الصادرات غير النفطية مع لبنان للعام 2013، والصادرة عن المكتب الوطني للاحصاءات، بأنّ حجم تصدير الامارات العربية المتحدة للبنان في العام 2013 بلغ 745 مليون دولار اميركي، امّا الاحصاءات الموجودة على الموقع الرسمي للجمارك اللبنانية فيذكر قيمة الواردات من البلد نفسه عام 2013 بـ380 مليون دولار، هذا الفرق الشاسع والواضح يظهر أنّ هناك تلاعباً بالفواتير للتهرب من الضرائب. والاغرب أنّ الكميّات جاءت شبه متطابقة.

امّا الصين، وهي من اكبر المصدّرين الى لبنان، فتظهر احصاءاتها أنه في تشرين الاول 2016 بلغت الصادرات الى لبنان 256 مليون دولار، أما الموقع الرسمي للجمارك فيظهر مجمل 177 مليون دولار للشهر نفسه، هذه عيّنة من الفروقات وسيظهر المزيد إذا أمعنّا في التمحيص.

في الاحصاءات الواردة على موقع وزارة التجارة التركية، تشير الاحصاءات الى انّ الصادرات التركية الى لبنان بلغت 734 مليون دولار عام 2016، امّا ارقام الموقع الرسمي للجمارك اللبنانية فتشير الى مبلغ 664 مليون دولار للعام نفسه، طبعاً الاحصاءات مع تركيا لا تتناول الالبسة الجاهزة التي يدخل معظمها الى لبنان عن طريق التهريب.

ولكن ما يثير الاستغراب اولاً، ألم يلحظ ايّ من المسؤولين هذه الفروقات التي تؤكد وجود الفواتير المخفضة والتلاعب بالكميات والاسعار؟ وثانياً ردّات الفعل عندما اطلقت الفكرة انه من الممكن جباية سنة 2017 بنحو الـ400 مليون دولار من الـTva وحدها وممكن أقلّه زيادة 30 في المئة من مداخيل الجمارك على رغم الاعفاءات مع اوروبا والدول العربية.

فالبعض اتهمني بأنني حالم ولا أفهم واقع الاجراءات والارقام الجمركية وسمعنا العديد من التصريحات حول ضرورة زيادة الـTVA الى 1 في المئة لأنه من الصعب معالجة موضوع التهريب والفواتير المخفضة، علماً أنّ الاجراءات سهلة ومعروفة، وبوجود العم «Google» والصديق «Ali baba» أصبح من السهل جداً التأكّد من الاسعار وحتى التواصل مع الشركات لكشف الاسعار.

وبدأنا نلاحظ تغييراً جدياً في العمل مع المدير العام الجديد ومجلس الادارة الجديد الذين يعملون اليوم لإحداث خرق وتغيير في الوسائل التي كانت متّبعة سابقاً.

يتّضح يوماً بعد يوم أنّ الواردات والمداخيل التي كنتُ قد نشرتها عبر جريدة «الجمهورية» هي واقعية وقابلة للتحقيق وفيها إمكانات لإصلاح آفات مزمنة، أخذنا منها بعض الافكار في الموازنة الاخيرة ولكنّني أصرّ وأؤكد انه من الممكن تأمين المزيد من الواردات من دون زيادة أيّ ضرائب على الفئات غير الميسورة، ونتمنى أن تكون البداية لإصلاح شامل في قطاعات متعددة ومتشعبة، لتحقيق العدالة الاقتصادية التي يصبو اليها الجميع. وكنّا نقول دائماً انه «إيه في أمل» كما غنّت السيدة فيروز، والأمل كبير اليوم لتحقيق لبنان المنتج والتنافسي وتعميم الثراء للجميع.