كيف يمكن إرساء سلام قائم مستدام في الشرق الأوسط؟ سؤال تطرحه مجموعة من مراكز الأبحاث الأميركية ضمن توجه إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب نحو تصحيح بعض المسارات الخاطئة لسياسة الديمقراطي باراك أوباما، والتي ساهمت في تحرير اليد الإيرانية بما جعلها تشكل تهديدا لمصالح واشنطن في الشرق الأوسط وتزيد من منسوب عدم الاستقرار فيه، وبما أن ما يحدث في المشهد السياسي في طهران يبيّن أن إبرام اتفاق بين العرب والإيرانيين هدف بعيد المنال بات لزاما العودة إلى إستراتيجية الردع وتطويرها وفق المتغيرات الراهنة بعد أن برهنت الدول العربية أنها قادرة على التدخل العسكري عند الضرورة.
 

طالب قادة الدول العربية في ختام قمتهم السنوية في السويمة على شاطئ البحر الميت غرب العاصمة الأردنية بوقف تدخلات إيران في شؤون دول المنطقة؛ وهو أمر استنكرته إيران وسعت إلى نفيه في ردّ لها عبر الناطق باسم خارجيتها بهرام قاسمي.

يزعم قاسمي أن لا حاجة “لإيران للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وملتزمة دوما بحسن الجوار واحترام سيادة الحكومات”، لكن الحقيقة الميدانية تثبت عكس ذلك وبشهادة الخبراء والمسؤولين العرب والغربيين والمجتمع الدولي بمختلف مؤسساته السياسية والفكرية، التي يجمع أغلبها على أن طريق السلم في منطقة الشرق الأوسط لا تمر عبر إيران.

وأعرب معهد المشروع الأميركي عن قلقه من بسط إيران لنفوذها الإقليمي عبر القوة الناعمة كإحدى الوسائل المتاحة ضمن “حزمة خيارات في منظومة تعدد الاستراتيجيات التي باستطاعتها البناء عليها والمزج بين وسائل أخرى لبلوغ نتائج أشد فعالية”.

وتسخّر إيران في بعض البلدان “مثل العراق والبحرين عامل التضامن الطائفي وتعزيز سردية نحن مقابل الآخر. وفي بعض البلدان الضعيفة يُسخّر نموذج حزب الله لتحقيق فجوة في فعالية الدولة.. فضلا عن استخدام العامل المالي والوسائل الإعلامية دون خجل”.

وأضاف المعهد أن “إيران لاعب دولي خطير ومتطور”، محذرا من نزوع خصومها إلى الاستخفاف بها لا سيما أنها تؤمن بفعالية “المعادلة الصفرية”. وحث صناع القرار على ابتكار سبل أخرى لمواجهة “القوة الناعمة” لإيران والتي “عادة لا تلقى ردا مناسبا”.

وتأتي أهمية هذا التقرير من أهمية الدور الذي تلعبه مراكز الأبحاث الفكرية والإستراتجية في صناعة القرار السياسي الأميركي وما يصدر عنها لا يمكن قراءته بمعزل عن سياسة البيت الأبيض، فليس من الصدفة أن يأتي تقرير معهد المشروع الأميركي متزامنا مع تصريحات أدلى بها النائبان بالكونغرس الأميركي عن الحزب الجمهوري، تيد كروز ومايك مك كال أكدا فيها أن “إدارة دونالد ترامب ستواجه الأعمال الإرهابية التي تقوم بها إيران”، ووصفاها بأنها “الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم”.

وبينما جدّد رئيس مجلس النواب الأميركي بول رايان دعوة وضع الحرس الثوري على قائمة التنظيمات الإرهابية، حث مركز السياسة الأمنية الإدارة الأميركية على التشدد في التعامل مع إيران “وضرورة استعادة المصداقية الأميركية عبر إنزال عقوبات بها”.

ورأى المركز في “تحذير إيران إعادة تفعيل إستراتيجية الأمن الوطني الناجحة التي اعتمدها الرئيس رونالد ريغان: إحلال السلام عبر إبراز القوة”؛ وتقريبا بدأت القوى العربية الإقليمية في اتباع سياسة مماثلة تجسدت أساسا في التصعيد العسكري في اليمن.


جوزيف فوتيل: إيران تقوم بحروب بالوكالة عبر الميليشيات والمجموعات الإرهابية

السلام في المنطقة

لا يقتصر التنديد بالدور الإيراني في الشرق الأوسط غير المستقر على الجانبين الأميركي والعربي، بل دخل على خط الرفض والتنديد والدعوة إلى ردود فعل مباشرة من نواب بمجلس العموم البريطاني، فقد ندد نواب في البرلمان البريطاني الأربعاء (22 مارس 2017) في جلسة استماع في قاعة وستمنستر هال في مجلس العموم في العاصمة لندن، انعقدت قبيل الهجوم الإرهابي، بتدخلات النظام الإيراني في منطقة الشرق الأوسط.

وجاءت جلسة المناقشة بطلب من مثيو آفورد، النائب المحافظ من منطقة هندون بلندن وتحدث خلالها نواب من أحزاب مختلفة حول الدور المخرب للنظام الإيراني وقوات الحرس في دول الشرق الأوسط مطالبين بتصنيف الحرس الثوري في قائمة الإرهاب من قبل الحكومة البريطانية.

وفي ذات الفترة، أبدت الولايات المتحدة قلقها من خطورة تقارير عن استمرار إيران في تهريب الأسلحة إلى اليمن وذلك خلال جلسة لمجلس الأمن قدّم فيها المبعوث الخاص إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ شرحا لجهوده.

وأعرب الوفد الأميركي عن قلقه بشأن ازدياد الانتهاكات في اليمن، وتصاعد العنف، كما أبدى قلقا خاصا بشأن «تقارير عن إمداد إيران الحوثيين بمعدات عسكرية».

يتمثل جوهر أزمة الشرق الأوسط في عدم وجود عقوبة لمنع هذه القوة أو تلك من تجاوز الخطوط الحمر من أجل الحفاظ على السلم والاستقرار في المنقطة. وتشبه مجموعة الشرق الاستشارية (ميدل ايست بريفينغ)، التي تتخذ من واشنطن مقرا لها، ما يجري في الشرق الأوسط اليوم بالعد التنازلي التدريجي والمميت للحرب العالمية الثانية.

وتقول المجموعة الاستشارية إن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أساء فهم هذه الديناميكية عندما خفّض دور الولايات المتحدة كضامن لحدود وخطوط حمر معيّنة. وهذا الدور المتناقص للولايات المتحدة في حفظ التوازن أدى إلى تشجيع هذا الطرف أو ذاك على الإسراع من أجل زيادة مكاسبه دون خشية من أي تبعات.

تمثلت المقاربة الأخرى لأوباما في تشجيع الإصلاح عبر دعم القوى الخطأ في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ، وهي مقاربة أدت إلى نتائج عكسية بالدرجة نفسها مع نتائج المقاربة الأولى، وفي نهاية ولايتيه كادت المشكلة الإقليمية تخرج عن السيطرة بشكل مطّرد.

يؤكّد قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال جوزيف فوتيل أن إيران تعد من أكبر الأخطار التي تهدد الولايات المتحدة عبر نشاطاتها في الشرق الأوسط. وطالب فوتيل بحث سبل مختلفة لتعطيل أنشطة إيران في المنطقة. ولم يحدد الجنرال الأميركي تفاصيل السبل الجديدة التي يطالب بها لمواجهة نشاطات طهران المثيرة للجدل في المنطقة. لكن تقرير مجموعة الشرق الاستشارية يرى أن بداية الطريق الصحيح تكون من خلال تدخل أميركي جاد وعميق وواضح الرؤية ومدروس جيّدا إلى عقود من السلم والاستقرار. فالتدخل الأميركي السابق في العراق هو الذي أطلق اليد الإيرانية ورجعها لن يكون بعيدا عن الدور الأميركي.

نجح التحالف العربي في اليمن إلى حد ما في منع صنعاء من أن تكون العاصمة الرابعة التي تسيطر عليها إيران، بعد بغداد ودمشق وبيروت، مثلما ساعد في بداية أحداث الربيع العربي على منع الأذرع الإيرانية من زعزعة أمن اليمن بتدخل قوات ردع الجزيرة.

يتمثل جوهر أزمة الشرق الأوسط في عدم وجود عقوبة لمنع هذه القوة أو تلك من تجاوز الخطوط الحمر من أجل الحفاظ على السلم والاستقرار في المنقطة
وتعمل اليوم كل دولة وفق سياستها ومدى الخطر الذي يشكله التدخل الإيراني فيها على مواجهة هذا التهديد ضمن سياسة تدعّمت خلال القمة العربية الثامنة والعشرين بإقرار جماعي على إدانة إيران. ويأتي هذا التكتل في سياق المتغيرات الدولية التي سمحت بأن يكون ميل ميزان القوة بشكل خطير ومطرد لمصلحة إستراتيجية إيرانية توسعية، كما أكدت ذلك مراكز الأبحاث الأميركية.

وتعتبر مجموعة الشرق الاستشارية أن الإفلات من العقاب شجّع طهران والعرب والولايات المتحدة على تجربة تكتيكات جديدة، فكانت النتيجة الأزمة العامة الحالية. كان هناك خطأ بإسقاط سياسة احتواء إيران والتفكير في أن إعادة الهندسة السياسية للشرق الأوسط ستخفض دور الولايات المتحدة المتعهدة بتوازن القوى في الخليج والمنطقة ككل.

وكان ثمن هذه الخطوات الخاطئة المزيد من التدهور في ميزان القوى وانتشار الإرهاب والتطرف وانهيار عدة دول في المنطقة. وتقول المجموعة البحثية الأميركية منتقدة “من المفترض أننا نعرف الآن ما الذي يجب تجنبه، لكن مازلنا لا نعرف ما الذي يتحتم فعله؟”.


الدولة المارقة

التوازن في القوة محليا هو مفتاح أي توازن قوى انتقامي، وهنا نرى ميلا خطيرا لمصلحة إيران. صحيح أن القوة العسكرية لدول مجلس التعاون الخليجي ضخمة وتلعب دورا مهمّا كعنصر في توازن القوى المحلي هذا، لكن إيران قد تكون راكمت الخبرة في الأعمال الحربية غير التقليدية واستخدام الوكلاء في أعمال تمرد قتالية. كما تمتلك أسبقية في الصواريخ الباليستية والحرب البحرية، وهي يسرها أن تلعب دور الدولة المارقة.

لمواجهة هذا الواقع، يرى الخبراء الأميركيون أنه يجب إدخال عناصر تعتمد على التعددية إلى التوازن القائم لجعله متوازنا فعلا. وفي هذا الإطار يمكن لدول إسلامية من خارج الدائرة العربية، مثل الدول الآسيوية أن تشارك في الحفاظ على السلم في الشرق الأوسط، لكن هذه المهمة هي بالأساس مهمة بلدان المنطقة قبل أي جهة أخرى.

وتقترح مجموعة الشرق الاستشارية خارطة طريق لتحقيق توازن قوة يحافظ على الاستقرار، وتقوم على استكشاف جدي لوقع الخطوات المتعمدة التالية:

- زيادة الضغط الأميركي على إيران في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية بهدف تشجيع طهران على فهم عواقب انتهاج سياسة عدائية مفتوحة مع العالم وجيرانها.

- مجهود دبلوماسي لجعل الولايات المتحدة تتبنى نظرة واضحة لمصلحتها والمصلحة الدولية في التوصل إلى سلم مستقر في الشرق الأوسط.

- مد اليد إلى روسيا والصين لمناقشة الخطة المقترحة وهذه الخطة ليست استراتيجية “احتواء إيران” بل استراتيجية “استقرار في الشرق الأوسط”. وستكون مساهمة روسيا والصين مهمة في التوصل إلى توافق دولي، ودون مثل هذا التوافق لن تكون خطة الاستقرار ناجعة.

- الاتفاق حول مجموعة من القواعد والسلوك وآليات المراقبة تكون شبيهة بتلك المعتمدة في سوريا (لكن على أمل أن تكون أكثر نجاعة)، ثم حث القوى الإقليمية على تبني هذه القواعد بعد إفهام الجميع بأن الرفض سيخلف نتائج معينة. ومن بين هذه القواعد يمكن اقتراح الخطوات التالية: محاربة الإرهاب وتفكيك كل الجيوش التي تحارب بالوكالة والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية ووضع حد للهجمات الإعلامية والتحريض.. إلخ.

وتخلص المجموعة البحثية الأميركية إلى أن هذه الجهود لا تضمن بأن تعطينا حالة قائمة مستدامة ومستقرة في الشرق الأوسط، لكنها مع ذلك تبقى الخيار الوحيد المتاح وإلا فإن التدهور سيتواصل لتزداد معه حدة تهديدات الأمن القومي.