وكأنه قدر اللبنانيين ابتلائهم بهذه الطغمة المتسلطة على تفاصيل حياتهم اليومية. والرابضة على صدورهم كالكابوس تحصي عليهم أنفاسهم. وتمنع عنهم خيرات أرض بلادهم كما تمنع عنهم التنعم ببركات السماء. فلا ترحمهم ولا تدع رحمة الله تنزل عليهم. 

خمسة عشر عاما من الحروب المدمرة والمعارك المتنقلة طالت كافة الأراضي اللبنانية ذاق خلالها اللبنانيون الأمرين من أصوات المدافع والقذائف والدمار والقتل على الهوية. وعانوا من امتهان كراماتهم ومصادرة حريتهم.

وتعرضهم لشتى أنواع الإذلال من الاحتلالات التي اجتاحت بلدهم. وخصوصا على الحواجز حيث تقدم عناصر الإحتلال إلى إسقاط كل المحرمات. وتلجأ إلى تعطيل كل المواثيق التي تحمي المدنيين. وتتعمد استباحة الأعراض والممتلكات دون وازع أخلاقي او رادع قانوني. 

فعانى المواطن اللبناني من ويلات هذه الحرب العبثية التي أطلق عليها اصطلاحا بالحرب الأهلية لكنها في الواقع كانت حروب الآخرين على الأرض اللبنانية. وبأيدي لبنانية آثمة باعت نفسها لقوى الإحتلال بحفنة من الدولارات.

فاستحالت أدوات تنفذ رغبات وسياسات ومصالح الدول المتصارعة. وحولت البلد إلى ميادين للقتال وساحات للحرب وتعطلت لغة الحوار بين سائر الطوائف والمذاهب اللبنانية وارتفعت المتاريس بين كافة المكونات السياسية والحزبية. وتم نهب خيرات البلد وثرواته الطبيعية ومخزونه المالي وتهريبها إلى الخارج بقوة قوى الأمر الواقع التي فرضت نفسها في المجتمع اللبناني وسلبت إرادة العيش المشترك الذي تميز به لبنان وأدت إلى فرض عمليات تهجير قسرية للأقليات المذهبية التي تعيش في مناطق فيها أغلبية مذهبية من لون آخر بعدما تم ضرب كافة المؤسسات الدستورية والعسكرية والأمنية بطريقة ممنهجة من قبل القوات الغازية التي عاثت في البلاد تدميرا وقتلا وتخريبا لكافة المرافق الحيوية في كبرى المدن اللبنانية وخاصة في العاصمة بيروت. وراجت التجارة بالأرواح والأنفس عن طريق القنص. فتحول البلد إلى طاحونة للموت وكتلة ملتهبة متنقلة طالت كافة أطرافه. واستمر الحال على هذا المنوال وفي هذا الجو الرهيب إلى أن لاح في الافقين الإقليمي والدولي رغبة في رفع المعاناة عن كاهل الشعب.

وذلك بوضع حد لهذه الحرب. وتمت دعوة الأطراف الداخلية المتنازعة للالتقاء في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية حيث تم التوصل إلى ما يسمى بأتفاقية الطائف برعاية عربية وأمريكية التي أنهت الحرب اللبنانية المسلحة. 

وتنفس اللبنانيون الصعداء. وتفائلوا خيرا بوعود انتقالهم من جحيم الحرب إلى جنة السلم. إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفنهم. ولم يطل التفاؤل كثيرا. خصوصا بعدما رأوا بأم العين أن أمراء السلم والذين تقلدوا المناصب ومواقع السلطة هم أنفسهم أمراء الحرب الذين تحصنوا خلف متاريسها. 

وسرعان ما أدرك الشعب أنه غارق في أوهام السلم  إذ أن الحرب لا زالت مستمرة ولكن بوسائل أشد خطورة وأكثر فتكا بالمجتمع اللبناني من المدفع والصاروخ والبندقية. حيث تم استخدام سلاح الشحن المذهبي والتقوقع داخل المكونات الطائفية. واللجوء إلى متاريس التحريض تحت شعار الحرص على حقوق الطائفة والدفاع عنها وزرع بذور الخوف والرعب. والإصرار على إلغاء الرأي الآخر. الأمر الذي أدى إلى توسيع شقة الخلافات بين أفراد الشعب تحت العناوين الطائفية والمذهبية وإثارة الفتن والأزمات والمشاكل فيما بينها. مما دفع بالمواطن إلى الانكفاء ضمن بيئته والانتصار للمشروع الطائفي والمذهبي على حساب المشروع الوطني الذي يحفظ البلد اقتصاديا واجتماعيا وامنيا. وعلى حساب استقرار المواطن المرهون لحسابات هذه الطبقة السياسية الفاسدة التي تفتقد إلى الحد الأدنى من المقومات الإنسانية والملكات الأخلاقية في تعاملها مع الوطن والمواطن في السلم كما في الحرب. 

تبقى إشارة لا بد من التأكيد عليها. وهي أن المواطن هو الذي يدفع فاتورة السلم كما دفع فاتورة الحرب