عادتي بالتوقف عن الكلام بعيداً عن الحجة التي يتوقعها الغير. أسترسل في سماع الأسئلة الموجهة لي من قبل الآخرين ولي علم مسبق بأن لا التزام لي معهم بإعطاء الأجوبة كما يرغبون. يرغبون وأنا لا ألبي فتلك هي حاجتي. يرغبون وهي مشكلتهم.
 

مرنت نفسي على عدم مبالاتي كما لم تفعل أمي. لي عبرةٌ من موت أخي وضجيج الحاضرين، جميعهم كانوا زائرين لوقتٍ محدد. هو عدد الساعات التي يحتاجها أخي في منزله قبل دفنه وكم سيئة تلك العبارة "دفنه". هي اللحظات الأخيرة في وداعه على مرأىً من الجميع. أعاود استرجاع الوجوه كما كانت، لكل حاضرٍ بينهم وظيفة السؤال عن الحادثة دون التمهّل! جميعهم يؤكد عليها بأن ترحم نفسها من الصراخ. كانوا زائرين ينتظرون موعد التكبير للصلاة عليه، فيتقدمهم أخي في نعشه المضيء. يومها، لم يجرؤ أحدٌ على الاستئذان من أمي والطلب منها بالابتعاد عن السرير كما تجري العادة للسماح للرجال بالاقتراب وحمله الى مثواه الأخير. كانت على أملٍ بأن يستفيق، كانت تلومه على خيانته لها، فهو غادرها صباحاً ليعود بعد انتهاء الدراسة. يومها تعاون الجميع على إنهاء هذا اللقاء، أبعدوها عن جسده بالقوة. فهو لن يستفيق وهي لن تصدق موته وهم قد ملّوا الوقوف وراءها.

إقرأ أيضا : هذا الحزن أصدرت فتواه زينب
اليوم يصادف عيد الأم، عيدها "أجمل الأمهات" فيرتكبون تلك الحماقة باعطائها وردة، علّهم بتلك الهدية يغفرون لقساوتهم عليها في ذلك التاريخ المشؤوم. ينظرون اليها تمسح دموعها ويعاودون طرح تلك الأسئلة التي عكّرت صفو راحتنا فغلبني ثقلها. يطرقون بابنا لاعطائها وردة. هم الزائرون أنفسهم، من واسانا في موت أخي كما تقدّر أمي. يعلمون بأن لزيارتهم "أجراً" وبأن لتلك الوردة "رائحة"، وهي تعلم أيضاً بأن لهذه الوردة صفة.. صفة الأم التي حرمت من صوت ولدها في عيدها. يخصصون لها في عيدها زيارة مؤقتة لاعتقادهم بأن هذا الوقت معها يمدها بالعمر الذي لم تعد تحسبه. تلك الزيارة وتلك الأسئلة التي تحيِ حادثة موته. 
اليوم أمي تمسح دموعها وتهديه تلك الوردة فتضعها عند قبره. اليوم عيدها وهي منحنية على قبره تذكّره بخيانته عند كل مناسبة. اليوم يعاودون مطالبتها "بالصبر" كأن لهم مصيبة مشتركة معها تجعلهم في موقع من يحق له أن يعطيها دروساً عن الحياة والموت. الحياة التي كانت تستحقها مع صبيها كما تستغفر ربّها. الحياة التي صاغتهم على شكل المحاضر الببغاء الخالي من المشاعر فيسجل بطولته باحدى الجمل التي لقنوها له "هم السابقون ونحن اللاحقون" وكأنه لا يهاب الموت. ذاك الرجل المعمم يا أمي، من ناداك من على المنبر بالتوقف عن الكفر بمشيئة الرب، فطلب منهم طردك خارج القاعة لأنّ موعظته لم تردعك عن الصراخ. طردوك خارج قاعته ولو يعلم ويعلمون بأن صراخك لم يتوقف بعد ذلك. للماء لون الأزرق أحياناً، للسماء أمطارها الباردة وللبحر أمواجه الجذابة تلاعب ذاك الصبي فتغدر به ليستقر في أسفل أسفل البركة. تآلفنا مع عداوتنا للبحر لنغمض أعيننا رافضين النظر اليه والتواطىء مع أمواجه. أي نعم يا أمي قلتيها: "توقف كل شيء عند لحظة قلبه لم يعد ينبض". 

إقرأ ايضا : كل إنسانيتكم لا تساوي هذه القدم
اليوم أمي تسرّح لي شعري لأن لي ولها زيارة، فتغريني بعاطفتها لتضمن لباقتي مع الضيوف واستقبالي لهم. غداً لن أسرّح شعري ولن أفتح الباب لطارقه. غداً لن يمر أحدهم فتبقى أسئلتهم لتؤنب أمي على رحيل أخي. 
من قلب الفاجعة أسمعهم يهلوسون بأسئلتهم فيختنق صوتها لتنادي روحه بصمت الملاك الحارس. لموت أخي قصة "ست الحبايب" لرحيله واجب لعن أسئلتهم، يرغبون وأنا لا ألبي فتلك هي حاجتي. يرغبون وهي مشكلتهم. في عيدك أيتها "الصابرة" ليتني استطعت رجم موعظته ولم أخجل فانتقمت منه. في عيدك ليتني استطعت حمايتك من أسئلتهم عند كل مناسبة، ليتك فعلت فعلي ولم توبخيني عند صمتي وعدم اكتراثي للآخرين، لكنت أنت اليوم غير آبهةٍ بهذه الوردة، لكنت اليوم يا أمي مثلي: ليس لديك جواب. لكنت يا أمي لم تضطري في عيدك وعند كل مناسبة الى احصاء عدد السنين التي مرت على تلك الحادثة. 
في عيدك وعند كل مناسبة : أحبّك.