في معرض نقاش مجلس النواب سلسلة الرتب والرواتب، ولدى البدء بإقرار البنود الضريبية، كان هناك فكرة سريالية حول إذا ما كان النواب سيقرون الضرائب فحسب من دون إقرار السلسلة. لكن أحداً لم يكن يتوقع أن تصل الجرأة إلى هذا الحد من الوقاحة.

منذ أيام، كان عدد من النواب يقولون عند سؤالهم عن السلسلة إنه قد تقر بنود منها وليس كلّها. لكن، غير المتوقع أن تكون البنود التي تقرّ هي البنود الضريبية. هذه الرسوم التي رفعت واستحدثت جرى تهريبها في وضح النهار. ومن هرّبها أراد التهرّب من إقرار السلسلة، وفيما بعدّ تهرّب من استكمال الجلسة لإقرار السلسلة بكاملها. كل المؤشرات تفيد بأن تطيير النصاب حصل بتواطؤ بين القوى السياسية المختلفة، المؤيدة والمعترضة. ولا يمكن فصل ما جرى عن جو الغضب الذي ساد الشارع اللبناني منذ جلسة الأربعاء، وبعدما تردد إلى مسامع النواب أن ثمة تحركات شعبية يجري التحضير لها.

منذ أربع سنوات، يدأب النواب والكتل على التهرّب من إقرار السلسلة بذريعة عدم تأمين واردات لها. أكثر من مرةّ جرى التوافق عليها، ثم تعاد إلى اللجان لدراستها. وكل ذلك كان لإضاعة الوقت.

أقل ما يُقال في التعاطي مع هكذا إستحقاقات أنه طريقة مافيوية. حفلة المزايدة خير شاهد على ذلك. يؤكد أحد المسؤولين أنه ضد السلسلة، لأنها تضر بالمصلحة الوطنية، لكنها تفيد نحو 500 ألف عائلة، لا بد من إنصافهم. وهنا، تتغلّب المصلحة الانتخابية والشعبوية على أي مصلحة أخرى، لأنه لا يمكن الذهاب إلى انتخابات في ظل عدم إقرار السلسلة. لكن ضمنياً يعتبرون أن إقرار السلسلة سينعكس سلباً على العدد الأكبر من المواطنين، خصوصاً الموظفين في القطاع العام، الذين سيسددون الضرائب لقاء تمويل السلسلة.

والواقع الأصعب، أنه في وقت يبحث فيه أركان الحكم عن تمويل السلسلة أو غيرها من خلال الضرائب، ربما لا يراقب الحال الوظيفي وسوق العمل في لبنان، فلا أحد يهتم للموظفين الذين لا يتقاضوا راوتبهم منذ أشهر، وليس هناك من يهتم بنسب البطالة، وهذه الضرائب في جزء أساسي منها ستطال هؤلاء. لا أحد يسأل عن هوائل الشكاوى في وزارة العمل من موظفين صرفوا من أعمالهم تعسفياً، وليس هناك من يلتفت إليهم.

المنطق القائم حالياً للسلطة في لبنان، أشبه بمافيا منه إلى دولة. فهذه السلطة سارت في منهج غير دولتي، قائم على أساس المحاصصات الطائفية والمذهبية، وهذه كانت سالكة حين كانت الأموال الخارجية تتدفق على البلاد من قبل كل جهة راعية للرعية الطائفية المعينة، أما اليوم وفي ظل الإنكماش المالي الخارجي، ووقف تدفق الأموال، فإن هذا المنطق لا يقود إلى بناء دولة قائم على أساس حقوق وواجبات، إنما على المنطق النفعي، وهذه المرّة انعكس الأمر طبقياً، بين الراعي والرعية، إذ أن المسؤول بدّى نفسه على أنصاره.

والتصرّف المافياوي الأكبر، كان من خلال محاولة الأطراف جميعها، دق إسفين بين الموظفين، إذ إن النسب التي تضمّنتها السلسلة تفاوتت بين قطاع وآخر. وهذا ما أوقع الخلاف بين أستاذة التعليم الأساسي والثانوي. إذ أعطي القطاع الأول ست درجات، والثاني ثلاث درجات. وهذا التفاوت إنسحب على موظفي الإدارة والعسكريين والقضاة. وتطيير النصاب حصل بعد إقرار الضرائب التي تطال جميع الفئات الشعبية، فيما جرى تطيير النصاب لدى نقاش البنود المتعلقة بالضرائب "الدسمة"، التي تتعلق برفع الرسوم على الأرباح المصرفية، والأملاك البحرية. وهذه كلها للساسة علاقات وشراكات فيها.

ولا شك في أن مشكلة اللبنانيين الأساسية، هي الإرتباط الطائفي بالقوى السياسية. ما يتيح شدّ العصب الطائفي والمذهبي لإعادة تعويم أي فريق سياسي. وهذا، غالباً ما يكون على حساب المواطن. لكن هذه المرّة قد تكون مغايرة، فالثقة مفقودة كلياً من قبل مختلف الفئات الشعبية، خصوصاً أن المسألة تطال لقمة العيش. وهذا يبقى أقوى وأمضى من الذرائع الأخرى. وما تعرفه القوى السياسية جيداً.