سواءٌ أكان متوقّعاً ما حصَل أمس في محيط ساحة النجمة ورياض الصلح، أم لا، فإنّ المعنيّين الذين تهافتوا إلى اعتلاء المنابر هالَتهم ردّة فِعل اللبنانيين العنيفة التي كانت منتظَرة، إنّما ليس بهذه الشدّة. في وقتٍ راهنَت غالبية واضعي الرسوم الضريبية على أنّ الشعب سيعترض كالعادة في بادئ الأمر، لكنّه سيذعِن للأمر الواقع لاحقاً ويدفع مستحقّات لا حول له لرفضِها، خصوصاً بعد إيهامه بأنّ تلك الضرائب الموجبة ستكون لإقرار سلسلة أخيه اللبناني أو معونة لأحد أقاربه.
 

ما لم يتوقّعه المعنيون أن يفطن المواطنون الذين تهافتوا إلى محيط مجلس النواب من كلّ المناطق اللبنانية ومن مختلف الجهات والمذاهب، أنّ هذه الضرائب ليست سوى خوّة تفرضها الدولة على شعبها عوض أن تَعدل بإقرار ضرائب مستقيمة وقانونية بعد أن تدفع مستحقّاتها لشعبها.

رئيس الحكومة سعد الحريري فوجئ بالمئات الذين تهافتوا احتجاجاً على تعريتهم تماماً بعدما جفّت جيوبُهم، فأتوا معترضين بعد صاعقة الضرائب التي سقطت أمس الأول على رؤوسهم ولم يستوعبوها إلّا صباح اليوم التالي، فأتت ردة فعلهم عفوية، خصوصاً بعدما تفاعلت الدعوات الى التجمّع على صفحات التواصل الاجتماعي. ونسيَ المواطنون قانون الانتخاب وحتى السلسلة على الرغم من أنّها تطالهم، لأنّ الضرائب لامسَت جيوبَهم الفارغة أساساً.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري الذي أزعجَته شتائم المواطنين المرفوعة على يافطات اصطحَبوها معهم، لاعنين الـ 128 نائباً ومتّهمين إياهم بالسرقة والاحتيال.

مَن المعطّل؟

وبالعودة إلى مجريات جلسة الأمس، فقد حضَر الحريري إلى مجلس النواب وعلاماتُ القلق على وجهه، فيما خيَّم الوجوم على ملامح النواب بمن فيهم نواب كتلة «المستقبل» الذين آثروا عدمَ التعليق على تحميل مسؤولية التعطيل لفئة واحدة.

صحيح أنّ مكاري هدَّد صباحاً بكشف أسماء المعطلين وفَعلها مساءً، لكنّ مجريات الجلسة لم تشِر الى مسؤولية كتلة الكتائب منفردةً عن هذا التعطيل، إذ إنّ مسار الجلسة الأولى وما صَدر بعدها من تسريبات رجَّحا عدم إقرار السلسلة إذا استمرّ النمط نفسُه في الاستفاضة بالنقاشات التي اعتُبرت ناسفةً لإقرار السلسلة.

وفيما افترَض البعض أنّ المعطل الأساسي لهذه الجلسة ما زال مجهولاً ومبهَماً، اعتبَر البعض الآخر أنّه مدبَّر ومتفَق عليه مسبَقاً، غير أنّ الصرخات الموجعة التي شهدها محيط المجلس لم توحِ بأنّ التعطيل كان له رأسٌ مدبّر، أو بأنّ فئة واحدة هي المسؤولة عنه لأنّها خرَجت من السلطة.

وفي السياق، كان لـ«الجمهورية» دردشة مع مجموعة من المعترضين الذين أتوا من مختلف المناطق: طرابلس، زغرتا، جبيل، المتن، وهدفُهم واحد حسبَ قول أحدِهم: «مثلما أحدثنا الثورةَ من أجل حبّنا للوطن، سنفعلها مجدّداً لأننا نحب أنفسَنا أيضاً ونريد أن نعيش مع عائلاتنا في لبنان، ولا نريد الهجرة، ونحن مفلِسون».

الرسوم الضريبية

وكانت أجواء التوتّر قد بدأت صباحاً عندما بدأ إقرار رفعِ الرسوم الضريبية على المشروبات الروحية المستورَدة وعلى مختلف أنواع التبغ
والتنباك، فتخوّف النائب سامي الجميّل من أنّ هذه الضرائب ستطاول جميعَ اللبنانيين في معيشتهم اليومية وستؤدي إلى مشكلة كبيرة في القطاع السياحي.

وفي هذا السياق، كان نافراً النقاش الذي دار بين وزير المال علي حسن خليل والجميّل الذي أيّد فرضَ ضريبة على مختلف أنواع التبغ، في وقتٍ نبَّه خليل من خطورة التهريب التي ستخفّض المداخيل إذا استمرّ تفَلّت الحدود، ليعلّقَ الجميّل: «صحيح يجب ضبط التهريب على الحدود، ولكن هل التهريب يكون فقط في أنواع التبغ وليس في المشروبات الروحية؟».

وهنا بدأ الجوّ بالتوتّر وساد هرجٌ ومرج بعد نقاشات طالت حول الضريبة المفروضة على أنواع التبغ والسيجار، فهدّد مكاري برفعِ الجلسة ليشعرَ البعض بأنه كان ينتظر أيَّ مناكفة لينسحبَ من حملٍ ثقيل لم يستطع حَمله رغم حنكتِه السياسية.

هدّأ خليل من روع مكاري، فعاد عن تهديده بعد التصويت على الاقتراح، ليؤيّده 46 نائباً ويعارضه 22 ويمتنع 3، فرَست الزيادة على 250 ليرة على علبة التنباك و500 ليرة على السيجار، فيما حارَ الجميع بمن فيهم مكاري ما إذا كانت الضريبة هي على السيجار الواحد أو على علبة السيجار! وأرجئ البحث فيه للتأكّد... فاستكمل النقاش وتمّ التصديق على المادة الثامنة المتعلقة بزيادة الرسوم على معاملات كتّاب العدل. وبعد نقاش في المادة التاسعة المتعلقة أيضاً بكتّاب العدل سُحبت على أن تعود كمشروع منفصل إلى الحكومة.

المادة العاشرة هي التي زادت الطين بلّة، وهي التي فرضَت مبلغ 5 آلاف ليرة على المسافرين بطريق البرّ لدى مغادرتهم الاراضي اللبنانية، ليعترضَ النائب نديم الجميّل، متسائلاً لماذا لم تفرَض الرسوم على الداخلين من غير اللبنانيين؟

فاقترَح النائب سيرج طورسركيسيان فرضَ مئة ألف ليرة كلّ ثلاثة أشهر على السيارة غير اللبنانية التي تَدخل برّاً، فاقترح وزير الداخلية نهاد المشنوق أن يكون الرسم على الدخول والخروج، هنا طلبَ سامي الجميّل وضعَ مئة ألف ليرة على كلّ سيارة تدخل لبنان، وطالبَ بالتصويت عليه، لكنّ الاقتراح سَقط بعدما لفتَ النائبان أنطوان زهرا وعلي عمّار إلى الاتفاقات السورية - اللبنانية التي هي أقوى من القانون، فيما اعتبَر عمّار أنّ فرض الرسم من دون دراسة قد يتبعه ردّات فِعل مماثلة من الدولة المقابلة. فطلبَ النائب الوليد سكّرية درسَه في الحكومة، ليوضح خليل أنّ رسم المغادرة لا يتعارض مع الاتفاقات، إنّما يتعارض على دخول السيارات.

هنا رَفع مكاري الجلسة، لكنّ المفاجأة كانت توَجُّهه إلى قاعة الصحافة برفقة النائب ابراهيم كنعان الذي توقّع منذ أمس الأول عدم إقرار السلسلة إذا استمرّت النقاشات على هذا المنوال، لافتاً إلى أنّ المعطلين وافقوا على الرسوم الضريبية في مناقشات اللجان. وقد بدأ مكاري كلمته بالتهجّم على المعطلين، مهدّداً بأنّه سيعلن عنهم بالأسماء.

فسارَع النائب سامر سعادة إلى نفي ما ألمحَ إليه كنعان بأنّ الجميع وافقَ على صياغة الضرائب المطروحة في نقاشات اللجان. كما نفى أن يكون حزب الكتائب قد أيّد إقرار تلك الضرائب في أيّ جلسة من جلسات اللجان خلال الأعوام 2012-2013-2014.

تبادل الاتّهامات

إلّا أنّ كلمة الحريري مساءً إثر انفراطِ عقدِ الجلسة بسبب عدم اكتمال النصاب، زادت الطين بلّة بعدما دان أيضاً حزب الكتائب مباشرةً، فيما تقول المعلومات إنّ تحميله المسؤولية إلى حزب الكتائب جاء نتيجة نشرِ الأخير لائحةً بضرائب مغلوطة على موقعِه الخاص، لكنّ الحزب عاد وحَذفها بعدما روّج مؤيّدوه بأنّها لائحة مفترَضة تناقلها بعض الشبّان على «الواتس اب» وعبر صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة. وهنا اعتبَرت مصادر كتائبية أنّ الحريري تسرَّع في إصدار حكمِه على الكتائب وأخطأ بتحميله المسؤولية في إرجاء إقرار السلسلة إن لم نقل تطييرها.

وقال الحريري في هذا السياق، إنّ هناك محاولة حقيقية لضربِ السلسلة، في وقتٍ كانت العائلات تنتظر أن نصدرها اليوم، وهي اليوم في ذمّة مَن سرّبَ هذه الإشاعات. وأضاف: فليكذبوا، ونحن إن شاء الله عندما يدعو الرئيس بري إلى جلسة سنرى مَن يكذب ومَن الصادق، ونراكم قريباً»، بالإشارة الى أنّه سيَرى بأمّ العين مَن سيصوّت على إقرار السلسلة ومن يرفضها.

بعد المؤتمر الذي عَقده كلّ من الحريري ومكاري، سارَع الجميّل إلى تبرئة كتلته بالقول إنّ نوّابه أربعة وإنّ النصاب كان مؤمَّناً لو أرادوا فعلاً إقرارَ السلسلة، وإنّ الكتائب لن تتراجع عن إعلاء الصوت.

وكشفَ عن فضيحة حصلت في مجلس الوزراء حيث طُلبَ من الكتائب التصويت على إعفاء 8 شركات كبيرة من رسوم ضريبية متأخّرة قاربَت قيمتها الـ44 مليون دولار، مذكّراً الحريري بأنّ الكتائب رفضَ الأمر 4 مرّات لكنّ هذه الشركات تمّ إعفاؤها بعد خروج الكتائب من السلطة، ولو دفِعت هذه الغرامات لكانت غطّت جزءاً من السلسلة. وعندما طالبَه الإعلاميون بالكشف عن أسماء هذه الشركات رفضَ تسميتها.

ودعا الجميّل إلى مراقبة مداخيل الدولة وتوظيف 300 شاب من خريجي الجامعات كمراقبين في المرفأ والمطار لوقفِ الهدر»، مؤكّداً أنّنا جاهزون لإقرار السلسلة من خلال تحسين الجباية ومنعِ التهرّب من الضريبة الذي يكلّف 46 ملياراً.

هل طارت السلسلة؟

وفي وقتٍ تناقلت أوساط نيابية أهمّية حضور الرئيس بري بشخصه وحاجة المجلس لحكمته وحسمه في هذه الأوقات الحرجة، ألمحَت تلك الأوساط إلى احتمال دعوة بري النواب إلى جلسة يوم الأربعاء المقبل لحسمِ موضوع إقرار السلسلة وضرائبها.

في المشهد العام، طارَت السلسلة بسبب فرطِ النصاب وتحميلِ مكاري والحريري الكتائبَ المسؤولية نتيجة شائعات أطلِقت عن زيادات ضريبية غير صحيحة، علماً أنّ طالبي الكلام خلال الجلسة الذين تناكفوا وعَلت أصواتهم كُثر، منهم نقولا فتوش الذي طلبَ من الوزير جمال الجرّاح سحبَ يدِه من جيبه أثناء الكلام على المنبر، فعلّق أحد الإعلاميين: المطلوب أن ترفعوا أيديكم جميعاً عن جيوب المواطنين.

ويبقى القول إنّ الأجواء تتّجه نحو التأزّم، ومئات الشباب يدعون عبر مواقع التواصل الاجتماعي مختلفَ أطياف المجتمع إلى التجمّع الأحد 19 آذار للثورة على الضرائب المفروضة. فهل سيستجيب المواطنون هذه المرّة بعدما أنساهم فقرُهم ويأسُهم قانونَ الانتخاب فيثورون لحماية لقمةِ عيشهم؟