بداية أشكرُ الحركةَ الثقافيةَ في أنطلياس على نشاطها الحافل... فالحركةُ باتت منبراً للفكرِ الحر، وصدى الضميرِ الحي وبصيرتَه المتطلعةِ إلى شروط حياة إنسانية أفضل.
لن أتطرقَ إلى مضامينِ الكتاب أو عناوينِه، بل أود هنا، عرضَ تجربةَ الكتابة ، أو تجربة السؤال القابع خلفها، الذي يخوِّلُنا اختراقَ أسوار الكتاب، وتعريةِ استاره. فالنصُ، بقدر ما يكون وسيلةَ اتصالٍ وتواصلٍ، يبقى أيضاً موطِنَ الحُجُبِ ، والسطحَ الذي يطمسُ قاع الهوَّة ، وقمة الثلج التي تُخفي سراديبَ الذاتِ وكهوفِها المظلمة.
عرُضُ تجرُبَتِكَ ، يضعُكَ في منطقة النحن أو النحنُوية We-ness التي تتعطل فيها سلطةُ البرهان، ولا جدوى في داخلها من اليقين وطُمأنينَةُ الحشود، أي منطقة الذات الخالصة لا الفردية أو العرَضية، التي يكون القلقُ والسؤالُ والتفكرُ فيها، قلقٌ وسؤالٌ وتفكرٌ عنى وعنك وعنه وعنا جميعاً، أي عن كل البشرية. 
الكتاب ثمرة مسعىً لفهم الذات واستعادتِها في آن، وللحدِّ من ابتلاع موضوعُ البحث لها، بعد أن كانت في فترة معتدةٍ من وجودها مُنتجاً من منتجاته. هذا المسعى ليس تأملاً استبطانياً خالصاُ، بل هو فعلٌ ارتجاعيٌ إلى الوراء، انكفاءٌ متواضعٌ، خروجٌ من حروبِ إثبات الذات أمام الآخرين وتفوقها عليهم، ارتدادٌ إلى أرض العوالم الخلفية لكل قيمة، والأسس الأخيرة أو الأولى لكل صحة أو صلاحية. 
إنه – اي المسعى- عودةٌ إلى منطقةِ الحرية التي يمنحُها الشكُّ طاقة تحررٍ عجيبةٍ من سطوةِ أفكارِ الحقيقةِ وشمولِ التمثلاتِ المزيفِ، فالشك ليس ضياعاً أو قلة إيمان كما يظن البعض، بل هو وقايةٌ من سذاجة الجموع ، وتكنيسٌ لترسباتٍ دفينة سُرِّبَت إلى داخلنا أو دست فينا من دون علم أو إرادة منا. هو هذا الصوت الداخلي الذي ينكد طمأنينَتَك، ويُقطِّعُ أوصال اليقين اللاغي لكل وجوه الإحتمال والتعدد، وينتزعك من حقل إمكاناتك الفائضة، ما يجعله، أي الشكَ، منبَعَ الحريةِ التي لا يحدُّها شيءٌ، وأصلَ حقيقةِ الذات ويقينَها الأول، إنه الملاذ النهائي الذي يضمن لك البقاء الأخير بعد أن يتداعى في داخلك ويتحطم أمامك ومن حولك كلُّ شيء. (عودة إلى الكوجيتو، ليس بالضرورة صياغاتها الديكارتية الاولى، بل لحظتها الضرورية الأولى لكل مسعى في تفحص الصحة أو إعادة تأسيسها من جديد، تجعل ذاتك تحت سيطرتك لا سيطرة الآخرين، وتجعلك في نهاية المطاف فوق الحقائق كلها التي هي آخر الأمر من صنعك).
موضوعُ التشيُّعِ، مثلُه مثلَ أيِّ موضوعٍ ديني، يحمل في جانب منه وازعاً إيمانياً محمَّلاً بادعاءات واثقة وتعالِياتٍ تُطلُ على معاني المطلق والخير والحق وما يجب أن يكون، وفي جانبه الآخر يستقي مادة حقائقه من أحداث التاريخ العرضية وصوره الجزئية وعشوائية سيلانه المتدفق وتتابع أحداثه غير المتوقعة، أي تاريخٌ متخمٌ باللاحتم واللايقين والإحتمال والإمكان وحتى الفوضى.
هذا يضعُ الإنسانَ في كل لحظاته داخل دائرةَ وجودٍ، يسميها البعض بالدائرة التأويلية، يكون فيها الكليُّ والضروريُّ والثابتُ والحتميُ والنهائيُّ أوصافاً مؤقتة لخارج ووقائع وموضوعات وصور حياة يملك اللامعنى واللاعقلي دائماً حصة الاسد فيها. ( ولا أقصد باللامعنى أو اللاعقلي هنا انتفاء المعنى وتعطيل العقل، بل العجز عن الوصول إلى معان محكمة للأشياء أو حصرها في كليات أو تمثلات عقلية نهائية). 
هذه الدائرة أشبه بدولاب متحرك في مجرى الزمن الإنساني، تحدث في كل دوران جديد بداية جدية ومعنى جديد لتحقق إنساني جدبد. (الوجود بحسب هايدغر حقل تأويل، والتحقق أو الانوجاد هو فعل الفهم والتأويل نفسه) .
ما يعني أنها- أي الدائرة- ذات سمة أنطولوجية متحركة للوجود الإنساني لا تتوقف ولا يكبح دورانها إلا سلطةً من خارجها (الدائرة لا تنتج ثباتاً بل كل شيء فيها سيال، والثابت لا يأتي منها، بل من خارجها وينزع إلى إيقافها وتعطيلها)، مصدرها الأساس الميتافيزيقيا والمقدس (وكلاهما وجهان لعملةٍ واحدة)، تخرج المعنى من السيلان الدائم ، وتعلن ثبات الحقائق وأزليتها. عندها تنفصل المعاني والكليات والمبادئُ عن دائرة الوجود الإنساني، وتغترب عنه، وتتخذ لنفسها وجوداً خاصاً بها، بعدما كانت لحظة من لحظات وجود الإنسان وتحققاته. في تلك اللحظةِ ندخل تاريخ وعصر الملل والمذاهب، ويبدأ علم اللاهوت أو الكلام أو علم العقائد.
قد يقول البعض ما علاقة كل هذا بموضوع الندوة؟ أقول أنه صلب الإشكال الذي يشمل الكتاب ويتعداه. إنها قضية صراع الإنسان مع حقائقه التي تجيء في لحظة تاريخية خاصة لتشبع قلقه المعرفي وظمأه الوجودي، ثم تنقلب عليه في فترة أخرى لتلغيه وتختزله وتستتبعه.


فبقدر ما تستجيب العقيدة، أية عقيدة، التي هي صناعة تاريخية لزمن تأسيسي خاص، لرهانات لحظتها التأسيسية الأولى، فإنها تحجب معان ورهانات أخرى، بل تحجب موضوع العقيدة نفسه، بعد أن تخنق ظهوراته المتعددة ووجوهه المحتملة والممكنة.
تكون العقيدة بهذا المعنى تنزيلٌ وإلغاءٌ:
- هي تنزيلٌ مصطنع لرهانٍ تاريخي جزئي وخاص نُزِّل منزلة اللازمني، والجائز منزلة الحتمي، والمحتمل منزلة اليقين.
- وهي إلغاءٌ لوجوه موضوعها المتعددة ودلالاته المحتملة ورهانات وأفاق أزمنة أخرى.
هذا يجعلُ العقيدةَ شكلاً من أشكال التمويه بأزلية حقائقها، والتقنيع في إخفاء أصلها التاريخي وظرفها الآني الذي ولدت فيه، لتوهم متلقيها المتأخرين عن زمانها، الذين هم نحن، تعاليها على أية مشروطية تاريخية، وتفرض عليهم الخروج من أفاق أزمنتهم وتلبس ذهنية ومشاعر أزمنة أخرى في فهم حقائق تاريخهم ودينهم.
بهذا فإن التأسيس الأصلي، أو التمذهب الذي يفرض نهايات وحتميات، على ظاهرة متدفقة وسيالة، هو يملي إكراهاً على الإرث الشيعي بتأبيد فهم آحادي حوله يحجب احتمالات فهم أخرى، ما يجعلنا نتلقى التشيع بالواسطة لا مباشرة، بالتلقين لا بالقراءة، بالاتباع لا بالفهم.
عندها يتخذ التشيع وتيرة حضور واحد وثابت في التاريخ، ويغيب الكثير من أبعاده، ويحوله إلى ظاهرة منعزلة ومعلقة في الهواء، ما يتسبب بالفصل بين الظاهرة الشيعية وتاريخها، ويخلق اغتراباً بينها وبين حقائقها وظهوراتها، امتنع معه تفسيرها بحسب ظهوراتها التاريخية بل وفق سر غامض يقف ورائها، يفصح عن نفسه حيناً ويتركنا حيارى ومرتبكين حيناً آخر.
كانت مهمة الكتاب إعادة ظاهرة التشيع إلى أصولها ومنطقة اشتغالها لكي تفصح عن خصوبتها، أي إعادتها إلى التاريخ الإسلامي وحتى الكوني واعتبارها جزءاً منه، لا أمراً طارئاً عليه أو سراً خاصاً اعتقدته جماعة من المسلمين، وتناقلته عبر أجيالها المتعاقبة بتقية متقنة.
فالتشيع ليس مجموعة معتقدات ظهرت دفعة واحدة منذ أول أمرها، وليس حقيقة منجزة ملقاة علينا من خارج التاريخ أو متعالية على تحولاته ومتغيراته، وبمنأى عن محدودية أحداثه وعشوائيتها فوضويتها وانتظامها، زيفها وأصالته.
هو ظاهرة لم تتخذ شكلا موحداً في التاريخ، ولم تحصل بفعل تآمر خارجي، ولا بفعل عناية إلهية مباشرة، بل ظهرت من رحم الواقع، واستعارت منه مكوناتها الاجتماعية والثقافية وخطابها وتضامناتها. إنها مشهد داخلي نابع من صميم الواقع الإسلامي، ويندرج ضمن التفاعلات التاريخية التي حصلت في المجال الإسلامي، بحيث لو حذفت وأقصيت أو إمحيت وقائعها، فإن أصل الذاكرة الاسلامية يتعرض للتزييف والتشويه والتلاعب
كان غرض الكتاب قراءة المذهب الإمامي الشيعي، لا لنتعالى به أو نتهمه، مثلما درج النقاش المتبادل بين الإمامية وخصومها، بل نتعامل معه بصفته منتجاً إسلامياً، ظهر ونما واستقر داخل سياق تفاعلي بين المكونات الإسلامية المتعددة، وفَرضَ وضعه السياسي اتخاذَ هيئة اجتماع وتكوين عقائدي خاصين يتمايز بهما عن التكوينات الإسلامية الأخرى، من دون أن يفارق الأرضية المشتركة الرافعة لكل المذاهب والتيارات. نحن أمام واقع إسلامي أنتج تنويعات متعددة كان التشيع أحداها، وليس أمام إطار مصطنع لمسارات متجاورة ومنفصلة عن بعضها.
لذلك حرصنا على رؤية المشهد من داخله مثلما حرصنا على رؤيته من خارجه. إذ إن التشيع نتاج الداخل والخارج معاً. فالخارج فرض عليه تموضعاً خاصاً داخل شبكة القوى وموازينها، والداخل كان نتاج دينامية تكيفه مع المتغيرات والأوضاع المتقلبة.

إقرأ أيضًا: ندوة حول كتاب الشيعة الامامية بين النص والتاريخ لمؤلفه د. وجيه قانصو
ما جعل التشيع حصيلة تفاعلات سياسية-دينية ممتدة في التاريخ، وظاهرة لم تأخذ شكلاً تضامنياً واحداً ولا بنية عقائدية ثابتة. فكان في جميع مراحل تكوينه الأولى مرآة للواقع السياسي والفكري السائد، الذي استعار منه مقولاتَه المتداولَةَ، السياسية والعقلية والعلمية، لصياغة خطابه وبناء رؤيته وتوليد حججه، فكان نتاج واقع محموم بصراع الخيارات المحتملة متخمٍ باصطفافات تداخلت فيها عناصر الثروة والعصبية القبيلة والوجدان الديني.
حين يتحول التشيع إلى مذهب عقائدي صارم، فإنه لا يُحدث قطيعة مع غيره فحسب، بل قطيعة مع نفسه، مع تدفقاته التاريخية ولحظاته الإنسانية الكبرى، حيث يحجب الإعتقاد المافوق إنساني في رموز التشيع الأوائل رؤية الإنسان الذي دفع برهاناته إلى تخوم المغامرة الإنسانية الأخيرة. إذ كل ما هو فوق تاريخي هو خارج التاريخ وممتنع عليه، وكل ما هو فوق إنساني هو لا إنساني، لن نجده سوى في تمثلاتنا المتعالية. 
لذلكك، لست بحاجة أن أرى في علي خصوصية إضافية فيه، أكثر من هذا الصفاء الإنساني الذي مارسه واختبره حين قال: " وَ اللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا ، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ ، وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي (السلطة) لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضُمُهَا".
لست بحاجة إلى أي اعتقاد حق أو باطل، خير أو شر، أو لائحة لعنات وإدانات لأدرك قيمة الحرية التي مارسها الحسين (الذي حصل في التاريخ لا علاقة بسوء النوايا بل تطور طبيعي لشبكة مصالح فرضت نفسها، بل إن أعداء الحسين حاجة لاكتمال عناصر المشهد الحسيني، فلولا هذا الوضع لظل الحسينية أمكاناً مفترضاً لا تاريخاً فعلياً متحققاً).
فالحرية لا تتجلى في القوة والجاه والسلطة التي تمنحك القدرة على أن تفعل ما تريد، بل تتجلى حين تتقطع بك السبُلُ كُلُّها، وتلوذ بوسيلة حريتك الأخيرة، وهي أن تعدم وجودك لتهزم موت الذل، دافعاً الحريةَ بذلك إلى ذراها القصوى. كانت لحظة الحسين لحظة اختبار أصلية للإنسانية كلها.
التشيع في أصوله الأولى موقف إنساني واختبار نُمتحن فيه نحن البشر في كل اللحظات التي تضعنا أمام خيارين: خيار أن توجد وتعيش ميتاً أو تنوجد وتتحقق بالموت. وهي صورة لا يمكن رؤيتها لو كان علياً أو الحسين عندي عقيدة نهائية أو تمثلاً متعالياً أو رمزاً لخلاص حصري.

الدكتور وجيه قانصو