ليس مستغرباً أن يخطو العهد خطوته المقررة غداً في إجراء التعيينات العسكرية والأمنية، فقد استوَت «الطبخة الشاملة والكاملة» على نار «العناية المحلية والدولية». البلد يحتاجها شكلاً ومضموناً وتوقيتاً بعدما عبرت البلاد المرحلة الانتقالية الصعبة التي فرضت التمديد في المواقع القيادية، ولم يكن من الحكمة «تغيير الأحصنة في وسط النهر». ولكن كيف ولماذا؟
 

يدرك القاصي والداني الدور الكبير الذي أدّته القوى العسكرية والأمنية في فترة الشغور الرئاسي في ظل محيط متفجّر تشهد فيه سوريا أخطر مراحل الأزمة التي تجاوزت بتداعياتها العسكرية والأمنية والسياسية والديبلوماسية دول الجوار السوري الغارقة في بحر النازحين الى مختلف عواصم العالم من اوروبا الى الولايات المتحدة الأميركية.

عدا عن تلك التي نَجمت من الحرب في اليمن التي تترجم حجم المواجهة بين محورين إقليمي ودولي تستعرض دوله قدراتها المختلفة على الساحتين السورية واليمنية بكل قواها العسكرية وفي ساحات أخرى لم تكن الأراضي التركية واللبنانية والأردنية والبحرينية والسعودية والإيرانية بعيدة عنها.

في هذه الأجواء كان لبنان غارقاً في بحر الشغور الرئاسي، فقصر بعبدا بقي خالياً من رئيس للجمهورية على مدى 29 شهراً انتقلت خلالها صلاحياته غير اللصيقة بشخصه ودوره الى الحكومة التي أدارت البلد في أصعب الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بلبنان على طريقة «هيئة إنتقالية».

وتحوّل مجلس الوزراء طوال تلك الفترة ومن خلال الآليات المتعددة التي استنبطت لاتخاذ القرارات كـ«مجلس إدارة» يضمّ ممثلين عن مجموعة من الشركاء توافقوا على إدارة شؤون مؤسسة ولكلّ منهم حق النقض في أيّ قرار يمكن أن يطاول ايّ قضية مطروحة على بساط البحث.

والأمثلة على ذلك كثيرة، من أزمة النفايات والمياومين في مؤسسة كهرباء لبنان الى جهاز أمن الدولة، الى التعيينات العسكرية والأمنية وغيرها من القضايا التي وضعت على لائحة «الملفات الخلافية»، فنامت في الأدراج المقفلة وما عولِج منها «ضُمّد على زَغل».

طوال تلك الفترة من الضمور السياسي كان البلد في عهدة القيادات الأمنية والعسكرية من دون ايّ غطاء سياسي، فعملت في أقسى الظروف بالتعاون في ما بينها لِلملَمة الأمور ومنع انتقال ايّ خلاف سياسي حول قضايا داخلية وأخرى تتصل بتداعيات الأزمتين السورية واليمنية الى الداخل. فكانت يقظة الى الحدود القصوى، فلم تسمح بأيّ شطط او خروج على ما يقتضيه الانتظام العام في انتظار استعادة المؤسسات الدستورية موقعها وسلطاتها فور انتخاب الرئيس المفقود للجمهورية.

ويعترف القاصي والداني أنه وبهذه الطريقة انقلبت الأدوار طوال تلك الفترة الإنتقالية، فبدلاً من أن تؤمّن القيادات الرسمية العليا الغطاء للقيادات العسكرية التي تستظلّ عادة القرار السياسي، كانت هي المظلة الواقية للمواقع السياسية جميعها من دون استثناء برعاية إقليمية ودولية نادرة لم يحظ بها أيّ بلد قبلاً.

فبقي لبنان آمناً في الحد الأدنى الذي يؤمّن استمرار قيام المؤسسات بدورها، فلا يتحول دولة فاشلة او مارقة نتيجة تجاوز أهلها كل الإستحقاقات الدستورية التي توفّر انتقالاً سَلساً للسلطة في محيط عربي لم تعرف معظم دوله ايّ انتقال سلمي او ديموقراطي للسلطة فيها قبل أن يعبرها ما سُمّي «الربيع العربي» فحَلّت الفوضى في بعضها، ولم تكتمل المؤسسات الديموقراطية في أخرى حتى اليوم.

امّا وقد انتخب رئيس الجمهورية في 31 تشرين الأول الماضي، فقد بدأ مشوار انتظام الحياة السياسية مجدداً، واكتمل عقد المؤسسات الدستورية بتشكيل حكومة جديدة تعهدت استعادة ثقة اللبنانيين بالدولة ومؤسساتها وبقي على أهل الحكم إتمام الإستحقاق النيابي الذي يُحيي السلطة التشريعية ويُنهي عهد التمديد في مجلس النواب الذي أفقده أشياء كثيرة من شرعيته الشعبية، لا القانونية ولا الدستورية بعد تمديدين متتاليين بلا سبب وجيه سوى التهرّب من واقع لم يتبدل كثيراً حتى الآن.

وقبل ان يتمكن العهد من وضع القانون الجديد للانتخاب بعد رفض اعترافه بالقانون النافذ في ظروف معروفة، إنتهى مشوار التفاهم على التعيينات العسكرية والمناقلات في المواقع القيادية الكبرى والتي ستترجم غداً في مجلس الوزراء إذا بقي الإتفاق قائماً حتى اللحظة الأخيرة في صيغة توزّعت فيها المواقع على القوى الكبرى برعاية إقليمية ودولية لا يمكن أحد تجاهلها او التقليل من أهميتها.

بدليل انّ أسماء كثيرة سقطت على الطريق بعدما شكّل بعضها «نَقزة» كبيرة لدى أطراف داخلية وخارجية تمّت معالجتها في الفترة الأخيرة لأسباب بعضها يتصل بضرورة إبقاء هذه المواقع خارج البازار السياسي كما اراده البعض من قبل ولم ينجح منعاً للأسوأ الذي كان متوقعاً.

وعند البحث في سلّة التعيينات العسكرية يجدر التوقّف ملياً أمام لعبة التوازنات الداخلية والخارجية التي سمحت بسلة التعيينات هذه ضماناً للاستقرار في هذه المؤسسات وحفاظاً على معنوياتها وتعزيزاً لقدراتها لتقوم بالمهمات الكبيرة المُلقاة على عاتقها فلا تضيع جهودها في الخلاف السياسي الداخلي.

فسِرّ بقاء الدولة وقوة مؤسساتها بات في جانب كبير منه في عهدة القوى العسكرية والأمنية الضامنة لمواجهة الإرهاب المعولم ومجموعة المخاطر الداخلية والخارجية، وهي عملية تكاملية ما بين التوافق الداخلي والرعاية الخارجية، وهي تجربة اختبرت بدقة متناهية لمَن يريد أن يقرأها بعيون حيادية ومنطقية. فالعالم يخوض حرباً كونية شاملة على الإرهاب، وللبنان دور ومهمة أنيطت بهذه القوى وعليها القيام بها.

وفي ما مضى لم يكن البلد قد استقرّ قبل عبوره المرحلة الإنتقالية، ولم يكن عقد المؤسسات الدستورية قد اكتمل، فليس هناك من محارب قديم كان «يقبل بتغيير الأحصنة في موكبه وسط النهر».