ورقة مقدمة في مؤتمر الأزهر ومجلس حكماء المسلمين، الذي تناول الحرية والمواطنة: التنوع والتكامل، المنعقد في القاهرة بتاريخ ٢٨ فبراير ١ مارس ٢٠١٧.
 

جئتكم من وطنٍ جراحُه نازفة، تخترق فيه الكلماتُ حدودَها لتنوح. في وطني تطاردنا كلَّ يوم أشباحُ القتلة، وشهوةُ الدم، وشهيةُ القتل. في عويلِ الدمِ المسفوحِ ببغدادَ اليومَ وأمس يختبئُ القتلةُ وراء نصوص تراثية وفتاوى جديدة قديمة، تضخها كتاباتٌ ومنابرُ وفضائياتٌ ووسائلُ تواصل مكثفة تميت أرواحَ الانتحاريين وضمائرَهم فيصابون بهستريا مجنونة. داعش وشقيقاتُها قراءةٌ عنيفةٌ للنص الديني، ورؤيةٌ مريضةٌ للعالم، ولاهوتٌ اقصائي، ومنظومةُ أحكام وثوقية، تحدّد كيفيةَ بناء الجماعة، وأنماطَ تعاملها العدواني مع الأفكار والأشخاص والأشياء. لا يمكن الشفاءُ من هذا المرض إلاّ بدواء من جنس الداء. إنها ليست أفراداً بل جماعاتٌ تقرأ النصوصَ الدينيةَ في الظلام، وتمتلك قواعدَ جماهيريةً عنيفة، ورأسَمال اجتماعي واقتصادي ورمزي فتّاك، ولديها إمكاناتٍ مختلفةً لتعبئة وتجييش الانتحاريين. يغذيها نمطُ تفكير يعاند التاريخَ، ويظل يكرّر ما كان كما كان، ويقاوم بشدة كلَّ تساؤل، ويناهض أيّةَ دعوةٍ للمراجعة والنقد والغربلة والتمحيص. ويتشبث بمقولات لازمانية لامكانية لاتاريخية. ما يثيرُ الدهشةَ هو مهاراتُ الجماعاتِ السلفيةِ المقاتلةِ واحترافُها حقْنَ مخيلةِ الشباب بمعتقدات الموت، وتسميمَ عقولهم بجزميات مغلقة، تحصر الطريقَ الى الجنة بقتل الأبرياء، ولا تجعل غايةً للتدين إلاّ الانتحارَ، والفتكَ الشنيعَ بالحياة والأَحياء.

نحن نلاحق الانتحاري المباشر، ونهمل المصنعَ الذي صيَّره انتحارياً. الارهابُ معتقداتٌ وايديولوجياتٌ وفتاوى ارهابية. لا يمكن الخلاصُ من الإرهاب من دون الخلاصِ من الفتاوى والأيديولوجياتِ والمعتقداتِ التي تسمم عقولَ ومشاعرَ وأرواحَ الشباب. لا تشتعل محرقةُ الموت إلّا بعد إيقادِ نيرانها في الأذهانِ والأرواحِ والضمائر والقلوب.

إن طغيانَ شهوةِ الدم، وهيجانَ شهيةِ القتل؛ نتيجةٌ طبيعية للتربية على لاهوتِ التكفير، وعقيدةِ الفرقة الناجية. لاهوتٌ تصير فيه الكراهيةُ ايماناً، والعنفُ ديناً، والتوحشُ تديناً. الكلُّ مدعوون لإنقاذ أرواحِ الأبناءِ من هذا الوباء الذي يبدّدُ الايمانَ، ويُنهِك الدينَ، ويعبَثُ بالعقل، ويفتِكُ بالانسان، ويمزّقُ الأوطان.

 كلُّ قراءةٍ فاشيةٍ للنصّ الديني تجفّف منابعَ الحياةِ الأخلاقية، وتطفِئُ جَذوةَ الحياةِ الروحية، ويتحول فيها الدينُ إلى أداةٍ للفتكِ بالانسان، وتدميرِ الأوطان. داعش وشقيقاتُها أحدُ أنماطِ هذه القراءة، ولا يبدأ تحريرُ مجتمعاتنا إلا بتحرير النصوص الدينية من هذه القراءات.

هل يمكنُ بناءُ دولةٍ حديثةٍ تتنوع مكوناتُها الدينيةُ والمذهبيةُ والإثنيةُ في ضوء عقيدةِ الولاءِ والبراء، وأحكامِ الرقيقِ،  وأهلِ الذمة، والردةِ، والتمييزِ بين الرجل والمرأة.. "، المنبثةِ في مدونة علمِ الكلام والفقه كلها في اسلام التراث، والتي مازالت حاضرة في معاهد الدراسات الشرعية حتى اليوم؟! الكل يعرف أن نصاب الانتماءِ في الدولةِ الحديثةِ مواطنةٌ يتساوى فيها المواطنون ‏في الحرياتِ والحقوقِ، بغضّ النظرِ عن معتقداتِهم وإثنياتِهم.

يحفل اسلام التراث بمقولات اعتقادية وفتاوى وآراء ومواقف خلقتها ملابسات وأزمات وصراعات ومشاكل واخفاقات وتشوهات زمانية ومكانية خاصة، وتشدد الجماعات السلفية على استئناف هذا النمط من الاسلام كما هو، بلا مراعاة لتلك الظروف الخاصة، وبلا تمحيص أو غربلة، وتفشل حتى اليوم في عبور تشوهاته.

وتنفق الجماعات السلفية على تكريس اسلام التراث مليارات الدولارات، توظفها في التربية والتعليم والاعلام والفضائيات والتبليغ وبناء المؤسسات والمدارس والمساجد. فقد نشرتْ (مجلة "يو اس نيوز" فى 25 ابريل 2005 تقريراً أعدّه "ديفيد كابلن" عنوانُه: "القلوب والعقول والدولارات" أورد فيه أن من 1975 الى 2000 تم انفاقُ 75 مليارَ دولار ٍعلى نشر الفكرِ السلفيّ فى العالمِ الاسلامي).

لنتأمل هذه الأمثلة للفكر السلفيّ الذي تم انفاق هذه الأموال المذهلة على ترويجها وما يماثلها. فمثلا يفتي ابن تيمية: "المؤمن تجبُ موالاتُه وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافرُ تجب معاداتُه وإن أعطاكَ وأحسنَ إليك". ابن تيمية/ مجموع الفتاوى ج 28: ص118

ويقول محمدُ بنُ عبد الوهاب أيضاً: "اعلم أن نواقضَ الإسلام عشرةُ نواقض... وذكر منها...: الثالث: من لم يكفّر المشركين أو يشكّ في كفرهم أو صحّح مذهبهم كفر".


ويكتب الشيخُ عبدُ الله بنُ عبدِ اللطيف: "التولي: كفرٌ يُخرِجُ من الملة، وهو كالذّبّ عنهم، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي. والموالاة: كبيرة من كبائر الذنوب، كَبَلِّ الدواة، أو بري القلم، أو التبشّش لهم، أو رفع السّوط لهم".

إن مثل هذه الفتاوى والآراء لا تخلو من أشباهها المدونة الكلامية والفقهية لدى كل الفرق والمذاهب الاسلامية، غير ان خطورة فتاوى وآراء أعلام الفكر السلفي تتمثل في أنها تحوّلت إلى مرجعية نهائية تُلهِم الضمير الديني للكثير من الشباب والشيوخ في عالم الاسلام اليوم، وأضحت منهلاً تستقي منه النزعةُ التعصبية العدوانيةَ العنيفة للسلفية القتالية.

 

كلّ عصرٍ يُنتجُ مدونتَه الكلاميةَ والفقهيةَ الخاصة:

نحن بأمسّ الحاجةِ إلى تضامنٍ يتسعُ لكلّ المؤسساتِ الدينيةِ وغيرِها الفاعلةِ والمؤثرةِ في عالم الاسلام، من أجل الخروجِ من هذا المأزقِ الذي استنزفَ بلدانَنا وبدَّد ثرواتنِا. تضامنٌ ينشِدُ إصلاحَ مناهجَ التعليمِ الديني، وإعادةَ بناءِ علومِ الدينِ ومعارفِهِ في سياقِ متطلباتِ العصرِ ورهاناتِه. فكلّ عصرٍ يُنتجُ مدونتَه الكلاميةَ والفقهيةَ الخاصة، وهي مدونةٌ لا تتسع أحكامُها لكافة العصور، ولا تستوعب مختلفَ الأزمان. بينما نحن دائماً نذهب إلى الماضي نستفتيه في حلول مشكلاتٍ أنتجها عالمُنا اليوم، وطالما خذلنا الماضي الذي أنتجَ حلولَه لمشكلاتِه الخاصة. إن أكثر ما يُكتَب ويُنشَر في قضايا الدين والمجتمع لا يرقى لمتطلبات الفردِ والمجتمع المسلم اليوم، وأكثرُ ما كُتِب أمس، رغم أهمية بعضِهِ، غير أنه لا يجيبُ عن شيءٍ من الأسئلةِ الكبيرةِ اليوم.

كما أن هناك ضرورةٌ ‏لإصلاحِ منابرِ الجمعة وغيرها من منابر الحديث والخطابة، لأن هناك جماعةٌ ليست قليلةً من الوعاظ والخطباء اليوم تملأ الفضائياتِ والمنابرَ عويلاً. تراهم كحاطب ليل. منابرُهم نسخةٌ من كلِّ ما يقرؤون، وأصواتُهم صدىً لكلِّ ما يسمعون. إنهم يكرّرون ما يقرؤون، ويجترّون ما يحفظون، من دون أي تفكير، أو تدبّر، أو تأمل، أو تمعّن، أو تمحيص، أو غربلة لما يقرؤون ويسمعون. حتى إن بعضَ خطباء الجمعةِ والمنابرَ يبدؤون حديثَهم ويختمونه بلعن غيرِ المسلم، رغم أنهم يشدّدون على أن الاسلامَ يحترمُ كلَّ الناس ويعاملهم معاملةً واحدة. وكأنهم لا يعرفون أن غيرَ المسلم شريكُهم في المواطنة والانتماء إلى المجتمعات والحضارة التي ينتمون اليها. 

وهنا أود أن أذكّر بدعوةِ مرجعيةِ النجفِ ومشيخةِ الأزهر إلى تبنّي نمطِ الدولةِ الدستوريةِ الحديثةِ، فقد شدّدت "وثيقةُ الأزهر" التي أعلنها الشيخُ الدكتور أحمد الطيب في 21 يونيو، 2011 على: "دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التى تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب؛ بما يتوافق مع المفهوم الإسلامى الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام لا فى تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف فى الثقافات الأخرى بـ (الدولة الدينية الكهنوتية) التى تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية فى بعض مراحل التاريخ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هى المصدر الأساس للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية فى قضايا الأحوال الشخصية".

إقرأ أيضا : ورقة المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي في مؤتمر الأزهر الدولي

 

وعندما قرّرت سلطاتُ الاحتلال تشكيلَ مجلسٍ لصياغةِ الدستور، وتعيينِ أعضاء هذا المجلس، بالتشاور مع الجهات السياسية في العراق، ثم طرحِ الدستور بعد صياغته لإستفتاء شعبي، رفض بشدّة آيةُ الله السيستاني ذلك، وأكد: "ان تلك السلطات لا تتمتع بأية صلاحية في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور... فالمشروع المذكور غير مقبول من أساسه، ولابد أولا من إجراء إنتخابات عامة، لكي يختار كلُّ عراقي مؤهل للانتخاب من يمثله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، ثم يجري التصويت العام على الدستور، الذي يقرّه هذا المجلس".

ويكشف آيةُ الله السيستاني عن أن مرتكزاتِ وأسسَ ومنطلقاتِ النظامِ السياسي الجديدِ للعراق تقوم على: (مبدأ الشورى والتعددية والتداول السلمي للسلطة، في جنب مبدأ العدالة والمساواة بين أبناء البلد في الحقوق والواجبات، وحيث أن أغلبية الشعب العراقي من المسلمين فمن المؤكد أنهم سيختارون نظاما يحترم ثوابت الشريعة الإسلامية، مع حماية حقوق الأقليات الدينية). وتكرر في نصوصٍ متعددة تشديدُه على ضرورة الانتخابات، ورفضُه لأية محاولةٍ تسعى لبناء صيغةٍ لنظام الحكم بعيدا عن إرادةِ واختيار الشعب العراقي، وعبّر عن ذلك بوضوحٍ قائلا: (شكل العراق الجديد يحدده الشعب العراقي، بجميع قومياته ومذاهبه، وآلية ذلك هي الانتخابات الحرة المباشرة).

وبعد مراجعةٍ شاملة للفتاوى والبيانات والمقابلات المدونة الصادرة عن مكتب السيستاني، فيما يرتبط بالشأن العراقي الراهن، وجدتُ أن مشروعيةَ السلطةِ في نظره تستندُ الى الشعب، وما يقرّره من رأي عبر صناديق الاقتراع، أي ان المشروعيةَ حسبما يرى شعبيةٌ. وانه لا يفكر بحكومة دينية، ويتحدث بوضوح لا لبس فيه عن ذلك ففي معرض بيانه لمهمة رجال الدين في هذا العصر، يذهب الى انه (لا يصح ان يزج برجال الدين في الجوانب الإدارية والتنفيذية، بل ينبغي ان يقتصر دورهم على التوجيه والإرشاد والإشراف على اللجان التي تتشكل لإدارة أمور المدينة وتوفير الأمن والخدمات العامة للأهالي).

 

أ. د. عبدالجبار الرفاعي، مدير مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا اسلامية معاصرة في بيروت / بغداد.