في لجّة البحث عن الحقيقة، أٌبتكر مصطلح ما بعد الحقيقة في وسائل الإعلام، حتى صارت الحقائق من الموضات القديمة.
الأخبار الزائفة تقلق العالم وتهدد الديمقراطيات الكبرى، وتفسد مدونة القيم المهنية وتجعل وسائل الإعلام تفقد أهميتها بالنسبة إلى الجمهور، ومع أن المتهم الذي يتم تداوله في كل هذا الضجيج عن الحقيقة الغائبة وما بعد الحقيقة، وسائل التواصل الاجتماعي وشركات التكنولوجيا الكبرى، إلا أن ثمة متهما غائبا في تلك الضجة، يجلس على كرسيّه المقدس ويتحدث بما يشاء ناقلا بثقة أحاديث السماء ! رجل الدين والداعية والخطيب مصدر هائل للأخبار الكاذبة الفتنوية، إنه يتحدث كشاهد عيان عن قصص تاريخية خرافية ووعود غيبية، وغالبا ما يحمل سوط الله بيده لجلد الإنسان، فقد منح نفسه تخويلا اجتماعيا ودينيا بأن يكون ناطقا باسم الحق ومدافعا عن وصايا السماء في الأرض، ليعد الناس بالجحيم ويصنف القيم والأخلاق وفق ما شاء عقله أو مصلحته.
لا يوجد كاذب أكبر من رجل الدين في العالم العربي، بوصفه مصدرا للتحريض والفتنة المتصاعدة والمستمرة، لأنه يتحدث عن الماضي الذي لم يعشه وينظر إلى المستقبل ونهاية العالم بوصفه عارفا بحقيقة ما سيحدث آنذاك، وعلى الجمهور أن يصدقه دون أن ينبس ببنت شفة أو يرجع لعقله لتحليل مثل هذا الكلام، وإلا وقع في المحظور ومس المقدس وصنف ضمن الزنادقة ! 
رجال الدين شركاء اليوم في كتابة المسودة الأولى من التاريخ أسوة بالصحافيين، إلى درجة أنهم يرفضون أن تمر مدونتهم على المراجعين تحت مسوغ مس المقدس. يصعدون المنابر مدفوعين بإشاعة الفضيلة والحق بين الناس، لكن غالبية تلك المنابر، في حقيقة الأمر، أضحت مصدرا لنشر الأكاذيب الدينية والغلو والخرافة والفتنة التي تجلب المال والشهرة لرجال الدين. 
المنابر الدينية مشروع تجاري مربح يبيع الكلام وقصص الغيب .
الغلو والخرافة توسعت إلى درجة يكون لها ملايين المتابعين، يكفي أن نعرف عدد المتابعين لحسابتهم على مواقع التواصل لنكتشف هول وضخامة الأكاذيب التي تصل إلى الناس، وحجم تداولها المخيف !
من البساطة بمكان أن ندرك أن _معظم _ رجال الدين هم مصدر للتحريض والفتنة، لأنهم غالبا ما يتحدثون عن أخبار تاريخية سالفة وكأنها حقائق معيشة، يدافعون عن مجرياتها بوصفهم شهود عيان عليها، بينما التاريخ يحمل من الالتباس والتناقضات ما يجعله أكبر مدونة تتسع للأكاذيب. وظيفة الداعية والخطيب سرد القصص التاريخية بطريقة مغرية وتقمص دور الشخوص فيها وكأنه كان حاضرا فيما يحدث قبل مئات السنين ! 
أيضا هؤلاء أنفسهم يتحدثون عن المستقبل وما ينتظر البشرية في قصص إخبارية مذهلة ومخيفة وسعيدة إلى درجة كأن المشهد بعد آلاف السنين قد تجسد أمام أعينهم ! ومن السهولة بمكان إلى درجة أن نسرد مئات الأمثلة لمشاهير هؤلاء الدعاة والمراجع الدينية، فما يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية من قصص إخبارية مثيرة مصدرها رجال دين، لا يفسر غير الضحالة الآسنة التي وقع فيها العقل البشري عند تصديق هؤلاء.
المفزع في الأمر ليس معظم رجال الدين كمصدر للأخبار الكاذبة وحدهم، بل الجمهور الهائل المتابع لهم والمصدق لما يصدر عنهم من حكايات وتفسيرات مقدسة باتت مرجعا لملايين الناس، هل يكفي أن أذكركم بفكرة رفض كروية الأرض التي يتداولها بعض دعاة أهل السنة بوصفها حقيقة مقدسة لا تعبأ مطلقا بالمنطق العلمي، أو ما يروج له مراجع الشيعة عن قصص وأحداث شارك فيها أئمتهم قبل أن يولدوا أصلا ! أو الدور الذي سيلعبونه بعد عودة المهدي المنتظر، وكيف ستجري الأحداث بعد آلاف السنين وكأنها جرت فعلا ! ألا يبدو ذلك أخطر على العقل البشري من أي أخبار كاذبة أخرى ؟
ما يحدث اليوم من تداول مخيف لتاريخ مغلوط، لا يعدو مجرد معلومات أو إعلانات، بل عملية اختراق إعلامي هائل للعقول يجعل من الاكاذيب حقيقة مقدسة ومن رجل الدين الذي يعد التصنيف البيولوجي للأنواع الحيوانية غير موجود، ويعتبر الأرنب حشرة ! أو الداعية الآخر الذي يعلن أن النص التاريخي المقدس قد سبق بآلاف السنين، الطب في اكتشافاته المعاصرة، وكأنهما (رجل الدين والداعية) مصدرا لا غنى عنه في وسائل الإعلام اليوم.
تبدو لي الصورة مفزعة أكثر مما نتخيلها، ومرد ذلك أن هؤلاء الدعاة والمراجع باتوا مؤثرين في اختراق العقول بمساعدة وسائل التواصل الاجتماعي والعدد الكبير من القنوات الفضائية. 
أن ينتشر تقرير مصور بالصوت لمرجع شيعي يريد نبش قبور الخلفاء ونقل أجسادهم من جنب النبي (ص)، أسرع تأثيرا من أي خطة تقوم بها مؤسسات استخباراتيه على مدار عقود ،إنه عمل داعشي بامتياز اقترفه هذا المرجع (النحرير) نتيجة لقصص تاريخية ودينية ملتبسة، لكنه شاع ووصل إلى الملايين، وليس بمقدورنا أن نعرف كم من الجمهور السني اتخذ من هذا الخبر مبررا لقتل الشيعة ! 
ألم أقل إن هؤلاء هم مصدر ليس للغلو والخرافة وحسب، بل للتحريض والفتنة بين المسلمين وتقسيم الأمة الاسلامية إلى فرق يقتل بعضها بعضا !