على الرغم من الاجتياح الاسلامي المتطرف لصفوف المعارضة السورية وتشكيلاتها ومناطقها وجمهورها، فإنها ما زالت تتمتع بما يمكن ان يسمى بالتفوق الانساني والاخلاقي على النظام وعلى أشباهه من الاسلاميين المتشددين، وتتحمل مسؤولية مستمرة في تقديم "المسألة السورية" وتمثيلها ومنع الانحراف بها عن مسارها الصحيح.

البيان الثاني الصادر  بالامس عن المثقفين والفنانين السوريين، بعد البيان الاول الذي صدر في شهر أيلول سبتمبر الماضي، برهان جديد أولا على أن النخبة السورية في غالبيتها الساحقة، إن لم يكن بإجماعها ، ما زالت في مكانها المناهض للنظام، تكافح وتناضل من أجل برنامجها ، من دون ان تتفكك او تتشرذم كما هو حال بقية الهيئات السياسية والعسكرية للمعارضة، وما زالت تمثل كتلة متراصّة في وجه الكتلة العسكرية والسياسية والامنية والدبلوماسية التي يحتويها النظام.

الغلبة الثقافية ، وتاليا الانسانية والاخلاقية واضحة. منذ اللحظة الاولى ، كان ولا يزال يصعب العثور على مثقف واحد يقف في صف النظام، يكتب ويجادل ويساجل. ثمة من هم في الوسط، لأسبابهم الاجتماعية او الدينية ، لكن أيا منهم لا يغامر بإسمه في تأييد الاستبداد برغم ملاحظاته العديدة على الثورة والمعارضة والاسلمة والعسكرة..وأدونيس هو في السياق وبهذا المعنى حالة استثنائية فريدة.

التواقيع على البيان الثاني تتلاحق الان على مدار الساعة، ما يرجح ان تزيد عدد الموقعين على البيان الاول، بحيث لا يمكن ان يبقى مثقف او كاتب او فنان سوري لا ينضم الى ذلك النص الجديد، والى ذلك التكتل الحديث العهد ايضا، الذي طال انتظاره، لسد فراغ هائل في الخطاب المعارض، او على الاقل لكبح عملية تشويهه او إفراغه من محتواه المتقدم ، من قبل النظام الذي  قد يعتبر البيان غير ذي شأن، او من قبل مناهضيه الاسلاميين المتطرفين الذين قد يرونه غير ذي بال.

في البيان الاول، كانت اللغة طوباوية: إشتباك متأخر لسنوات مع المجتمع الدولي وإكتشاف مؤجل لظلم الاميركيين وإضطهاد الروس. وقد جرى التساهل مع محتواه السياسي البسيط، فقط بصفته بياناً تأسيسياً عاماً لتيار او تكتل ثقافي منشود ، بل مرتجى.

في البيان الثاني، جاءت اللغة عفوية، واقعية، ومباشرة : ثمة كارثة كبرى كشفت عنها منظمة العفو الدولية مؤخرا، بعد الكارثة التي كشفتها أوراق "القيصر"، وصوره الشهيرة. النخبة السورية تطالب المجتمع الدولي بإقفال المسلخ البشري في صيدنايا، وبمحاكمة المسؤولين عنه. وهو مطلب متواضع ومتاح وقابل للتنفيذ  بالمزيد من الحراك والضغط. كان يمكن، بل ربما كان يجب أن يطرح كشرط مسبق للذهاب الى جنيف 4، لو كانت المعارضة السياسية والعسكرية في وضع ميداني وتفاوضي طبيعي.

مع ذلك، فإن البيان الثاني هو  في حده الادنى إرشاد ثقافي-سياسي لازم،  إذا جاز التعبير، للوفد المفاوض في جنيف، علّه يستطيع تحويله الى ورقة عمل او الى بند على جدول أعمال المفاوضات، الذي يحتمل مثل هذه القضية الانسانية، وربما يتجاوب معها، برغم الاعتراضات المحتمة من جانب النظام وحلفائه الروس والايرانيين. المحاولة ممكنة، والنافذة مفتوحة أمام مفاوضين يعيدون تصويب مسار العملية السياسية ذات الغطاء الدولي، بعد المحاولة الروسية لتفجيرها من الداخل في لقاء أستانة.

البيان واضح ومحدد. وكذا توقيته. الموقعون هم نخبة سوريا التي مرّ معظمها على سجن صيدنايا بالذات، ولم يفاجئه تقرير منظمة العفو، وهو يعتبر ان إقفال المسالخ البشرية على الاراضي السورية، حق وواجب على المجتمع الدولي، مثله مثل وقف النار ، الذي من دونه أيضاً لا جدوى من البحث في قرارات الامم المتحدة ولا في تفسيرها ولا في تحديد أولوياتها.

البيان دقيق في وظيفته: النخبة السورية تتقدم خطوة جديدة نحو إعادة تعريف المسألة السورية، من نقطة الصفر، من المربع الاول الذي قفزت منه الى المجهول.