الذين ظنّوا أن "تفاهم النيّات" بين العماد ميشال عون ("التيّار الوطني الحر") والدكتور سمير جعجع ("حزب القوات اللبنانية") قبل نيّف وسنة، ثم ترشيح الأخير الأول لرئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة، سيلغيان التناقض بين مواقفهما السياسيّة المتعلقة بالقضايا الخلافيّة الوطنيّة والخارجيّة وليس بحقوق المسيحيّين ودورهم في النظام السياسي القائم، قد يكونون بدأوا يفكّرون أن ظنّهم لم يتحوّل يقيناً حتى الآن وقد لا يتحوّل يقيناً، ولا سيّما بعد إعلان عون في جولته العربيّة الثانية مواقف من "حزب الله" وسلاحه تتناقض مع موقف جعجع. فهو قال: "طالما أن هناك أرضاً محتلّة من إسرائيل، وطالما أن الجيش ليس قويّاً كفاية ليحارب إسرائيل، فنحن نشعر بضرورة وجود سلاح المقاومة ليكمل سلاح الجيش". وقال أيضاً إن "حزب الله" هم سكّان الجنوب (لماذا نسي أن البقاع هو خزان آخر له) ومن اللبنانيّين الذين احتُلّت أرضهم ولا يزال قسم منها محتلّاً. وهو بالتأكيد ليس مناقضاً للدولة وهو جزء أساسي من الدفاع عن لبنان". وقال أخيراً ما معناه إن "حزب الله" لا يتسبّب بمشاكل أمنيّة داخل لبنان، وإن ما يقوم به خارجه هو مقاومة للإرهاب. طبعاً الأمر اللافت كان تجاهل جعجع الحليف المسيحي الأوّل لعون في هذه المرحلة مواقفه المذكورة، رغم بلاغته في المراحل السابقة في التنديد بـ"الحزب" وسلاحه ودوره الداخلي "المُعطّل" والإقليمي المُضر بسوريا الشعب وثورته. والذين ظنّوا أن ترشيح زعيم "تيّار المستقبل" الرئيس سعد الحريري العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وهو الذي يمثّل الغالبية وإن غير الساحقة من السنّة اليوم خلافاً للسابق، سيعتدل في سياسته الداخلية المنحازة في رأي السُنّة وممثّليهم السياسيّين إلى "حزب الله" والغالبية الساحقة من الشيعة التي يمثّل مع شريكه رئيس "أمل" نبيه برّي، وسيسعى إلى حل بعض أسباب الخلاف بين "الشعْبَيْن" المُسلِمَيْن الأكبر ديموغرافيّاً وإلى إعادة التوازن بينهما في السلطة بل في القرار الدولي والوطني، هؤلاء ربّما بدأوا يعيدون النظر في ظنّهم هذا بعد تأكيد الرئيس عون مواقفه السابقة من "حزب الله"، وبعد إطلاقه مواقف اعتبرها لبنانيّون كثيرون ومنهم أهل السُنّة ماسّة باتفاق الطائف، وبصلاحيّات ممثّلهم في رئاسة الحكومة ومجلس الوزراء، ومُمهّدة لاستعادة الرئيس الماروني الصلاحيّات التي كانت أحد أسباب حروب لبنان بين 1975 و1990 أو أحد أبرز أسبابها. طبعاً تغاضى الرئيس الحريري عن هذه الأمور حرصاً منه على استقرار الوضع الداخلي بعد ملء الشغور الرئاسي الذي طال كثيراً وتأليف الحكومة وعودة الحياة إلى مجلس النواب ولا سيّما في دوره التشريعي، ورغبة منه في بقاء الحكومة التي توفّر له فرصة جيّدة لاستعادة وضع متين شعبيّاً في الداخل ولدى حليفه الإقليمي الذي أظهر إهمالاً له في "عهده الجديد"، كما لاستعادة علاقات مؤثّرة مع عدد من الدول الفاعلة المسلمة والغربية. علماً أن الانصاف يقتضي الإشارة إلى أن التغاضي لم يكن مئة في المئة، إذ عوّضت عنه وسائله الإعلاميّة وعدد من سياسيّي تيّاره في مقدّمهم وزير الداخلية في حكومته نهاد المشنوق. كما تقتضي الإشارة أيضاً إلى تفهّم "حزب الله" أسباب عدم التغاضي الإعلامي (والسياسي على قلّته) وموافقته عليه. ولعلّ في الإشارة إلى "الثوابت"، وهي التي تتعرّض لـ"الحزب" مباشرة في خطاب الحريري في الذكرى 12 لاستشهاد والده الرئيس رفيق الحريري، والإصرار في الوقت نفسه على دوافع "الحوار الثنائي" معه وعلى ضرورة استمرار الاستقرار ما يدل على ذلك.
في أي حال، اعتذر من الرئيس عون إذا وجد في هذا الكلام تعرّضاً له. فأنا لم أخرج يوماً في الكلام عنه وفي تحليل مواقفه السياسيّة منذ تعاطى السياسة مباشرة في خريف 1988 حتى اليوم عن التهذيب والرصانة والاحترام، رغم الاختلاف معه دائماً في الأسلوب والنبرة وأحياناً كثيرة في السياسة والاستراتيجيا العامة، ورغم أن غياب الثانية كان أحد المآخذ في السابق. وهو اليوم رئيسنا كلنا نحن اللبنانيّين وله علينا واجب الاحترام، ولمهنتنا علينا واجب النقد حيث يلزم وليس الشتم والتهجّم والتشهير. علماً أن ذلك لا يعني أبداً أننا آلهة لا نخطئ في بعض الأحيان. وفي هذا المجال لا بدّ من القول أن العماد عون الرئيس اختلف عن عون الزعيم في الشكل. إذ صار الهدوء صفته الأساسيّة التي حلّت مكان الانفعال السريع. لكنه احتفظ بالعفوية. فهل اختلف في الاستراتيجيا والموقف؟ وما هي انعكاسات تأكيد إيجابيّته حيال "الحزب" على الداخل اللبناني وعلى لبنان؟ وهل يغيّرها؟ أو يستطيع تغييرها؟