للوهلة الأولى يبدو البيان الأخير لوزارة الخارجية الأميركية المتضمّن دعوة للأميركيين بعدم السفر الى لبنان وتحذير الرعايا الموجودين في لبنان من التنقل في بعض المناطق اللبنانية، وكأنه بيان حربي يوحي وكأنّ النار مشتعلة في لبنان من أدناه الى أقصاه، وهو أمر دفع كثيرين الى إحاطة هذا الإجراء الأميركي بعلامات استفهام حول توقيته ومغزى مضمونه، وذهب البعض الى إدراجه في خانة الإنزعاج الأميركي من الكلام الأخير لرئيس الجمهورية حول سلاح «حزب الله»، وذهب آخرون الى رسم سيناريوهات خطيرة لخطوات ميدانية متمّمة لهذا الإجراء ربطاً بالحديث عن عقوبات وإجراءات أميركية قاسية ضد «حزب الله».
 

هذا الجوّ الذي أثاره بيان الخارجية الأميركية، لم يقتصر على المستويات السياسية والشعبية، بل إنّ لبنان الرسمي توقف عنده الى حدّ أنّ مجموعة اتصالاتٍ سياسية وديبلوماسية جرت في الساعات الأخيرة وبعيداً من الأضواء للاستفسار عن خلفية البيان الأميركي ومراميه.

هنا يقرّ مسؤول كبير بـ«أنني لا أستطيع أن أمرّ على بيان كهذا مرور الكرام، لقد سألت نفسي وأنا اقرأه؛ إذا كان صادراً على طريقة دونالد ترامب، الذي استهلّ عهده بقرارات متسرّعة، فهذا يعني أنه قرارٌ آيل للسقوط على غرار قرار حظر سفر رعايا بعض الدول الى الولايات المتحدة، وها هو القرار يترنّح، وإذا كان صادراً من ذهنية «المحافظين الجدد»، فهذا يعني أنّ البيان خطوة يمكن أن تتراكم عليها خطوات لاحقة».

هنا يستدرك المسؤول نفسه ويقول:« ما أخشاه هو يدغدغ بيان الخارجية اذهان البعض، الذين يبدو أنّهم دخلوا مجدداً في رهان على الخارج، ويمنّون انفسهم بتطورات وخطوات ميدانية اميركية وغير اميركية تحدث تغييرات لمصلحتهم في لبنان .. يبدو ان هؤلاء لم يتعظوا من تجارب الرهانات السابقة»!

و«لكنّ الجواب الدقيق حول خلفيّة بيان الخارجية الاميركية»، يضيف المسؤول نفسه، «جاءني عبر إشارات أميركية، إنما غير رسمية تلقّيتها عبر قنوات خاصة، تفيد بأن ليس هناك ما يدعو الى القلق، خصوصاً أنّ حدود بيان الخارجية الأميركية هي تذكيرية فقط للرعايا الأميركيين بوجوب أخذ الحيطة والحذر في بعض الدول التي شهدت، أو تشهد أحداثاً تعتقد الإدارة الأميركية أنها تشكل خطراً على رعاياها.

وأعادتني تلك الإشارات الى البيانات السابقة الذي صدرت في الماضي، التي حملت المضمون نفسه، وما يميز البيان الجديد عنها أنه حمل بعض التحديث للصياغة لا أكثر».

على أنّ تلك الإشارات الواردة الى المسؤول نفسه عكست شعوراً أميركياً بعدم الارتياح للمواقف الأخيرة من «حزب الله وسلاحه، وخصوصاً من قبل رئيس الجمهورية، إلّا أنها لم توحِ بأكثر من ذلك، ولا بأية خطوات أو إجراءات ربطاً به. ثمّ إنّ لبنان الرسمي على مستوياته كلها، لم يتبلّغ رسمياً ما يؤشر الى انزعاج أو عدم ارتياح أميركي، بل إنه سمع بذلك عبر ما تناقله الإعلام في هذا المجال.

وأكثر ما سُجّل في هذا السياق ما ورد على لسان ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان سيغريد كاغ التي وصفت موقف رئيس الجمهورية من أنّ «سلاح المقاومة مكمّل لسلاح الدولة»، بأنه مقلق، وقرنت ذلك بتغريدة قالت فيها «القرار 1701 واضح ويدعو الى نزع سلاح كلّ الجماعات المسلّحة، وأنه لا للسلاح خارج الدولة».

وهو ما استدعى إجراءً رسمياً لبنانياً سريعاً تجلّى في استدعاء كاغ الى الخارجية، بناءً على توجيهات رئاسية، ولفت انتباهها الى ضرورة تقيّد «المُعتمد الديبلوماسي» بأحكام اتفاقية فيينا، ولاسيما المادة 41 منها، التي توجب على هذا المُعتمد، احترام قوانين ولوائح الدولة المعتمدة لديها وعدم التدخل في الشئون الداخلية لتلك الدولة».

الموقف الرسمي من بيان الخارجية الأميركية، يقاربه بواقعية «في الاساس لبنان يعتبر البيان بياناً تلقائيّاً روتينياً يجرى تحديثه كلّ ستة اشهر، ورغم ذلك، نحن فإن بدا لنا أنه بيان يُراكم عليه خطوات أخرى، ستكون هناك حتماً إدارة مختلفة لهذا الملف، وفي أيّ حال، رئيس الجمهورية عبّر عن موقفه بصراحة، نحن مطمئنّون، ولا يوجد لدينا أدنى قلق».

ما يبعث الاطمئنان لدى اصحاب هذا الكلام، هو «أننا نتابع كلّ التقارير الخارجية الأميركية وغير الأميركية، ولا يحتاج مضمونها الى تمعّن وتمحيص كبير، إذ هي واضحة بإشارتها التي لا لبس فيها، الى أنّ الإدارة الأميركية الجديدة مازالت في طور بناء نفسها، وأمامها فترة لإنجاز هذا الأمر، ناهيك عن أنّ بعض التطورات التي تحصل في الداخل الأميركي تفرض على الإدارة الجديدة أولويات جديدة مرتبطة بالداخل الأميركي حصراً، ومن هنا فإنّ هذه الإدارة بحسب ما تجمع عليه التقارير السالفة الذكر، لم ترسم بعد أيّ تصوّر لسياستها الشرق أوسطية».

«أما لبنان»، يضيف هؤلاء، «فهو غائب كلياً في هذه الفترة عن خريطة اهتمامات الإدارة الأميركية، وليس معلوماً متى سيدرج أو إن كان سيدرج، ويكون له مكان على هذه الخريطة.

لبنان موجود فقط على سطح الاهتمام الأميركي وليس في صلبه، ومن هذا السطح تكتفي الإدارة الأميركية بكلام تقليدي عام تطلقه الديبلوماسية الأميركية في بيروت بين حين وآخر على شاكلة: واشنطن تدعم استقرار لبنان .. حافظوا عليه.. يهمنا استقرار بلدكم.. تهمنا تقوية الجيش في حربه على الإرهاب وسنواصل دعمه.. وما يحققه الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية من إنجازات في وجه الإرهاب محلّ تقدير وإشادة في واشنطن».. والى الآخر ما هنالك من كلام يصبّ في هذا المنحى «النصائحي» العام.

على أنّ أهم ما يكشفه هؤلاء هو أنّ الإدارة الاميركية أطلقت إشارات جدّية في الآونة الأخيرة بانها ليست مقفلة أبوابها في وجه لبنان. إذ في معلومات «موثوقة جداً» إنّ تلك الإشارات نقلت الى مراجع لبنانية رسمية تؤكد أنّ واشنطن راغبة في سماع الصوت اللبناني مباشرة.

وفيها أنّ الملك الأردني عبدالله الثاني، وخلال زيارته الاخيرة قبل اسابيع قليلة الى الولايات المتحدة الأميركية، اثار خلال محادثاته مع الجانب الأميركي الملف اللبناني، ولمس ممّا سمعه من المسؤولين الأميركيين استعداداً كبيراًَ وجدّياً لسماع موقف بيروت. واستكمالاً لهذا الحديث، وجّه الملك الأردني نصيحة مدروسة الى الجانب اللبناني حرفيّتها «أنا أنصح بأن تقرعوا أبواب واشنطن لإسماع صوتكم».

وصلت النصيحة الملكية الأردنية الى حيث يجب أن تصل.. ولكن إن كان سيُعمل بها أو سيتمّ تجاهلها أو حفظُها.. فهذا ما سيكشفه الآتي من الأيام.