يخال القارىء لمواقف الرئيس ميشال عون في القاهرة أنه كان يتحدث عن مصر عبد الناصر، او السادات، او حتى مبارك..عن مصر بصفتها قائدة ورائدة، ما زالت تنعم بنجاحات سياسية واقتصادية وأمنية باهرة يتطلع العرب جميعا اليها ويتمنون التشبه بها والسير خلفها. لا يمكن ان تنسب تلك المواقف الى المجاملة المعتادة في مثل هذه الزيارات، كما لا يمكن ان تعزى الى نقص في معلومات الرئيس عون عن مصر وأحوالها الراهنة. الارجح ان الامر كان مستمداً من معطيات وملفات قديمة جدا عن مصر وموقعها ودورها التاريخي، وإن كان ثمة ما يشي بأن الجنرال كان صادقاً، واعياً لما قصده بكلامه المصري الصادر عن عفوية ظاهرة، وعن خلل في المتابعة، وعيب في الاستشارة.  ولعل إشارة عون في حديثه مع جريدة "الاهرام" الى تجربته العسكرية المشتركة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تلك الاشارة التي تحولت عنواناُ رئيسياً ، تفصح عما يجول في خاطره فعلاً، تجاه مصر وحكمها العسكري الحالي ، ذي الطابع الانقلابي، بقدر ما تؤكد مرة أخرى بأن الرئيس اللبناني لم ولن يتخلص من ذلك الارث المثير للجدل دائماً والذي لا يدعو الى الفخر أبداً، على الرغم من بلوغه المنصب المدني الاول في الدولة اللبنانية.

كاد عون يجاهر بأن زيارته القاهرة هي مجرد لقاء بين ضابطين سابقين، بين حاكمين عسكريين، بين حكمين يتباهيان بخلفيتهما وبطبيعتهما اللاسياسية، او على الاقل بتناقضهما مع السياسة التقليدية وأدواتها ورموزها.  وكانت النتيجة التوصل الى اتفاقات للتعاون العسكري الوثيق الذي يترك الانطباع بان البلدين شقا طريق تحالف ثنائي، لا يمكن لأحد ان يخطىء مغزاه ووظيفته في السياق العربي والاقليمي العام، ولا يستبعد ان يثير خلافاً  جدياً داخل لبنان.  

مثل هذا التحالف او حتى التعاون العسكري اللبناني مع مصر، لا يزيد لبنان قوة ومنعة في مواجهة العدو المشترك الذي حدده عون والسيسي صراحة بانه الارهاب. وإذا ما نُحي جانباً السجال المصري حول شرعية الحكم العسكري الحالي، فانه يصعب العثور في التجربة المصرية الراهنة على قصة نجاح واحدة ضد هذا العدو. وما يجري في سيناء ويصل بين الحين والاخر الى القاهرة وكبرى المدن المصرية، وكذا الحدود مع ليبيا او السودان او غزة، خير دليل. وليس من قبيل المبالغة الزعم ان لبنان هو الان أكثر أمناً وإستقراراً  وأقل حاجة الى  التماهي مع تلك التجربة او تقليدها او محاولة الاستفادة منها، او حتى التورط في معاركها.

وهذا التقدير للتجربة المصرية يحظى بما يشبه الاجماع ، وهو لا يُحال فقط الى خفة الجنرال السيسي وجهله وسوء تدبيره وإبتعاد حلفائه وشركائه التقليديين (السعودية والامارات) عنه. الخوف على مصر حقيقي، لان الجيش المصري نفسه، وهو مركز الدولة ومحور المجتمع، ومصدر "الشرعية"، يفقد اليوم من رصيده التاريخي الاخير، ولا يوفر فرصة تسليم سلطة مستقرة وآمنة الى المدنيين يوماً ما، بعد استنفاد مهمة الضابط الحاكم حالياً.

الاعلان بان الجنرال اللبناني يأنس للجنرال المصري ليس أمراً تفصيلياً عابراً. ثمة أحلاف عربية واقليمية ودولية تقع مصر خارجها، ولا يمكن للبنان ان يكون في إشتباك معها. الحياد الايجابي خيار ممكن، خرقه عون نفسه في جميع مواقفه في القاهرة، لا سيما في دعوته السيسي الى المشاركة في الحرب السورية. وهو ما لا يؤسس فقط لشراكة او لتحالف ثلاثي مصري سوري لبناني، بقدر ما يفضح نية (خطة)عونية، للانخراط المباشر في الصراع السوري، الى جانب نظام بشار الاسد، من بوابة النازحين السوريين، التي فتحت في الاونة الاخيرة على لسان الامين العام لحزب الله حسن نصر الله.

لم يكن عون يخاطر في القاهرة بالتفاهمات السياسية التي أوصلته الى الرئاسة، والتي يبدو أنه لا يقيم لها أدنى إعتبار. كان ينفذ مهمة محددة، لم يتناقض معها يوماً، ولن يتخلى عنها أبداً، حتى ولو كانت الكلفة على الاستقرار الداخلي اللبناني هذه المرة باهظة.