لم يكن مشروع موازنة ٢٠١٧ مفاجئًا لأحد إن من ناحية الزيادة في النفقات أو الزيادة في الضرائب. وغياب الإصلاحات الإقتصادية والمالية والإدارية من مشروع الموازنة، هو دليل على العجز في خوض معركة الإصلاحات قبل ٤ أشهر من الانتخابات النيابية. النتيجة تكريس للعجز وزيادة في الدين العام.

قبل الغوص في مضمون مشروع الموازنة لا بد من التوضيح انه بين عدم إقرار الموازنة وإقرارها بحالتها الحالية، الأفضل إقرارها، لأن في ذلك أقلّه إمكانية للمتابعة والتدقيق خصوصًا أن ١١ عامًا من الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية والإعتمادات من خارج الموازنة، ضاعف الدين العام من ٣٨.٥ مليار دولار في العام ٢٠٠٥ إلى أكثر من ٧٥ مليار دولار حاليًا.

مشروع الموازنة المطروح على طاولة مجلس الوزراء يُعاني من عيوب كثيرة يتطلّب إصلاحها جرأة وإرادة من قبل الطبقة السياسية.
فالإصلاحات المطلوبة إقتصاديًا وماليًا لها تأثير على الشق الإجتماعي للمواطن (وهو ما ليس مرغوبًا على مسافة ٤٤ أشهر من الانتخابات النيابية) كما وعلى مصالح أصحاب النفوذ، وهذا ما لن تستطيع السلطة مواجهته حاليًا.

١٦.٤ مليار دولار أميركي هو مجموع النفقات المُقترحة في مشروع الموازنة مقارنة بـ ١١.٢ مليار دولار أميركي للإيرادات أي أن العجز المُتوقع في الموازنة هو ٥.٢ مليار دولار أميركي. وهنا نُشدّد على كلمة «مُتوقّع» لأن الحقيقة ستكون مُغايرة بالتأكيد نظرًا لأن الزيادات في الضرائب المُقترحة ستؤدّي حكمًا إلى خفض الإستهلاك ومعه إيرادات الدولة على النشاط الإقتصادي (مبدأ العرض والطلب).

ومن المُتوقّع أن يُسجّل بند النفقات في العام ٢٠١٦ ما يفوق الـ ١٤.١ مليار دولار أميركي (الأرقام الرسمية لم تظهر بعد). وبالتالي فإن الزيادة في الإنفاق بين العام ٢٠١٧ والعام ٢٠١٦ هي في حدود ٢.٣ مليار دولار منها ٨٠٠ مليون دولار كلفة السلسلة، ٧٠٠ مليون دولار لوزارة البيئة لمشروع الملوثات العضوية الثابتة! و٨٣٠ مليون دولار نفقات إستثمارية.

الغريب أن المشروع يرصد مبلغ ١.٤ مليار دولار لدعم مؤسسة كهرباء لبنان مع سعر برميل نفط في حدود ٥٣ دولارا، في حين أنه في العام ٢٠١٣، وبحسب أرقام وزارة المال، كان الدعم ٢ مليار دولار مع مُعدّل وسطي لسعر برميل النفط ١٠٤ دولار أي أن الإنخفاض في سعر برميل النفط لا يتناسب مع الإنخفاض في الدعم (٦٥ إلى ٧٠٪ من كلفة الإنتاج هي فيول).

على صعيد الدين العام، نُلاحظ أن هناك مُشكلة في إحتساب خدمة الدين العام التي تمّ تقييمها بـ ٤.٧ مليار د.أ. بإعتقادنا كلفة خدمة الدين العام أكبر من ذلك بحكم أنه في العام ٢٠١٥ بلغ الدين العام ٧٠ مليار د.أ وخدمة الدين العام ٤.٦٨ مليار د.أ. فكيف يُمكن أن خدمة الدين لـ ٧٥ مليار د.أ (قيمة الدين العام في نهاية العام ٢٠١٦) أن تكون ٤.٧ مليار د.أ (متوسط الفائدة بين ٧ و٨٪)؟ وبإعتقادنا أن قيمة خدمة الدين العام في العام ٢٠١٧ سيفوق الـ ٥.٣ مليار دولار أميركي.

المُشكلة في هذه الموازنة هي أنه تمّ فقدان السيطرة على الإنفاق على خطّين أساسيين: الأول يطال بند الأجور والتعويضات والتقاعد الذي أصبح يفوق ٥.٥ مليار د.أ (كلفة السلسلة ضمنًا) أي ما يُشكّل ٤٩٪ من إجمالي الإيرادات.

الثاني يكمن في خدمة الدين العام التي تزيد يومًا بعد يوم حيث أن غياب النمو الاقتصادي يجعل العجز يتحوّل تلقائيًا إلى دين عام. وإحتساب الزيادة في الدين العام في العام ٢٠١٧ يوصلنا إلى ٧٩.٢ مليار د.أ (الزيادة تبلغ ٤.٢ مليار د.أ).

من هذا المُنطلق نرى أن الإجراءات الضريبية والتي تتمثّل بالزيادات التي تمّ التوصل إليها في آخر المناقشات على سلسلة الرتب والرواتب في اللجان النيابية، تُعطي إيرادات بقيمة ١.٦ مليار د.أ بحسب المشروع، في حين أن كلفة السلسلة هي ٨٠٠ مليون د.أ أي أن الفارق البالغ ٨٢٠ مليون د.أ إختفى بحكم زيادة الإنفاق في البنود الأخرى. وبالتالي فإن سلبيات هذه الزيادات على النشاط الإقتصادي أكثر من فوائدها في المطلق بحكم أنها لم تؤمّن التوازن المالي المطلوب.

في فذلكة الموازنة، يتمّ إستخدام عبارة «الإصلاحات الإقتصادية» والتي تستخدمها المُنظمات الدولية لتدلّ على زيادة الضرائب وزيادة النفقات الإستثمارية. بإعتقادنا أن المُنظمات الدولية تستخدم هذه العبارة بإعتبار أن الماكينة الإقتصادية هي في حالة جيدة وأن هناك عجزا بسيطا في الموازنة يتمّ تصحيحه من خلال رفع الضرائب وعلى الأمد البعيد عبر النفقات الإستثمارية.

المُشكلة أنه في لبنان الإصلاحات التي يحتاجها الإقتصاد والمالية العامّة هي أعمق من ذلك بكثير، فالفساد ينهش في جسم الدولة اللبنانية، وبالتالي فإن محاربة الفساد وحدها كفيلة بإعادة التوازن المالي (كلفة الفساد ٥ مليار د.أ سنويا – خسائر مباشرة).

ومكافحة التهرب الضريبي، معالجة مُشكلة الأملاك البحرية والنهرية، التخمينات العقارية… وغيرها أصبحت أكثر من ضرورية خصوصًا أن قطع الحساب لم يعد موجودا (مُخالفة دستورية) وبالتالي، من الصعب جدًا ضبط الأمور والمُحاسبة.

أيضًا لا يُعقل الإستمرار في سياسة التوظيف العشوائية التي أصبحت عبئًا ثقيلًا على الخزينة عبر بدعة «عقود المُصالحة» التي تضع الدولة تحت الأمر الواقع وتفرض توظيفا جماعيا من دون أن يكون هناك تحديد لملاكات الوزارات والمؤسسات وكل ذلك دون أن يكون هناك من قياس للأداء وبالتالي للإنتاجية.

أمّا الهدر فحدّث ولا حرج، وعلى رأسه نفقات السفر التي تُشكّل مدخولا يفوق أجر الموظف المعني. وهنا يحقّ لنا السؤال عن فعّالية مهمات السفر وعائداتها على الإقتصاد اللبناني والمالية العامّة.

لن تستطيع هذه الحكومة القيام بالإصلاحات المطلوبة لأن القوى السياسية تخوض حاليًا مرحلة مصيرية مع محاولة إقرار قانون إنتخاب جديد وبالتالي فهي ليست مُستعدّة لمواجهة الناخبين ولا أصحاب النفوذ. من هذا المُنطلق، نرى أن السيناريو الأكثر إحتمالًا هو أن يتمّ إيجاد صيغة قانونية لقطع الحساب (الدستور يفرض إقرار مجلس النواب لقطع الحساب قبل إقرار الموازنة) الغائب منذ أكثر من عقد وسيتمّ إقرار مشروع الموازنة كما هو أو بأفضل الأحوال مع بعض التعديلات لتكون بذلك موازنة العام ٢٠١٧ هي موازنة تكريس العجز وزيادة الدين العام.

في الختام يبقى القول أن وجود الموازنة هو أفضل من غيابها ويتوجب العمل على إقرار أفضل صيغة تعفي الدولة من مزيد من العجز.

 

البروفسور جاسم عجاقة